شارك هذا المقال :


إبن فاس وسرّ الدوقة

الدولة: إسبانيا

"تعال أُرِيكَ شيئاً في قصرنا، كنت أدقُّ حائطاً وعندما أَسْقَطْتُه وجدتُ أسْفله مسجداً داخل القصر، وفعلاً صَلَّيْتُ في ذلك المسجد"  نحن في بلدة (سان لوقا دي باراميدا)، لنطّلع على هذا الإكتشاف ، السر ..

كان هذا القصر العتيق الذي عاشت فيه دوقة مدينة سيدونا الإسبانية (لويزا إيزابيل الفارس دي توليدو) طوال حياتها، يحتضن الكثير من ذكرياتها بين جدرانه، ذكريات والديها وذكريات الأجداد الذين توارثوه من قبل، وكان كعادة الزمن أن أخذ الكثير من رونقه وجماله فبدأ القصر يهرم. 

تقرر لويزا البدء في خطة الترميم، ها هي تستعد لدق حائط في القصر لإزالته وتجديده، فإذا بها تقع على سر عظيم مخفي، لم يكن كنزاً من الجواهر، ولا سبائك ذهبية منسية، بل كان سراً لأجيال عديدة رفضت الذوبان وحافظت على نضالها رغم كل شيء.

ما وجدته لويزا في قصرها جعلها تفكر في شخص واحد لأخذ مشورته، إذ كانت تحس بالخطر المحدق بها، وكان الدكتور (علي بن محمد المنتصر بالله الكتاني) هو الرجل المنشود بذاته!

فمن هو إذاً؟ ولماذا هو؟ وأي سر احتوته الجدران؟ 

"تعال أُرِيكَ شيئاً في قصرنا، كنت أدق حائطاً وعندما أَسْقَطْتُه وجدتُ أسْفله مسجداً داخل القصر، وفعلاً صَلَّيْتُ في ذلك المسجد"  

لويزا دو توليدو  

هنا في بلدة (سان لوقا دي باراميدا) تُطْلع الدوقة لويزا الدكتور علي الكتاني على السر، كان مسجداً مخفياً داخل قصرها الذي ورثته عن أجدادها! مسجداً منسياً منذ نهايات الأندلس وحروب النضال، مما يعني أن والدها ومن قبله أجدادها كانوا مسلمين مورسكيين قرروا إخفاء إسلامهم، وتمكنوا أيضاً من شغل مناصب كبيرة خلال حياتهم.

بعض من القشعريرة تسري وأنت تفكّر كم تمسَّك الموريسكيون بعقيدتهم على أشدَّ من الجمر، مسلمون أندلسيون تنوَّعت سبل مقاومتهم، ولكن بقي الإسلام في قلوبهم.

كان أيضاً من ضمن ما وجدته في قصرها وثائق تثبت وصول المسلمين إلى الأمريكيتين قبل كولومبس! لم يعبروا المحيط إلى هناك لاحتلال الأرض وإراقة الدماء، إنما تعايشوا وتصاهروا مع سكانها الأصليين حتى بقيت آثارهم الإسلامية خلفهم شاهدة عليهم كما تحكي الوثائق.

 

 

إذاً كان هو الدكتور علي الكتاني الرجل المنشود لمثل هذا السر لأسباب عديدة، فهو المغربي المسلم ابن مدينة فاس  الذي وقع حبُّ الأندلس في قلبه من كل اتجاه، مشاهدة حين كان فيها  عام ١٩٧٣م وهو يعدُّ لكتابه عن الأقليات (المسلمون في أوروبا وأمريكا) وكان حبه عملاً بكل ما سنراه فيما قدمه للأندلس، منها كتابه الشهير (انبعاث الإسلام في الأندلس)، وقبل كل ذلك كان حبه وراثة عن والده  الشيخ والعلامة في المغرب، والذي أولى الأندلس اهتماماً خاصاً، فالمغرب كانت فيما مضى ملاذاً لكثير من الموريسكيين الهاربين من بطش الصليبيين، ولربما كثير منهم ينحدرون من أولئك الذين فروا بدينهم إليها.

والدكتور الكتاني أيضاً أحد أكثر الشخصيات تعقيداً وبساطة في ذات الآن؛ إذ تراه عالماً متميزاً، فهو الخبير في علوم الطاقة، والمحاضر في أقوى معاهد أمريكا التقنية معهد (ماساتشوستس)، نال الدكتوراه قبل أن يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، كما كان متحدثاً بتسع لغات يتقن منها أربعة، كتبه العلمية تُدرَّس في أرقى جامعات أمريكا، وهو أيضاً أحد مؤسسي جامعة الملك فهد بالمملكة العربية السعودية.

ليس هذا فحسب بل كان للكتاني اهتمامات أخرى شدَّت الدوقة لويزا إليه؛ إذ كان مهتماً بالأقليات الإسلامية حول العالم، نراه يؤلف عنها الكتب، يبني هنا معهداً وهنا مركزاً اسلامياً في محاولة مستمرة منه لربط كل هذه الأقليات داخل منظومة إسلامية واحدة وإن تشعبت في البلدان، جهوده هذه أثرت في حياة الكثير من المسلمين المنسيين حول العالم.

 

 

 "وتعمدت أن ألتقي بزعماء "الماورين" الكبار وشيوخهم، وهم - "الماوري" - سكان نيوزيلندا الأصليين، وقلت لهم: "عُدُّوا المسلمين المتواجدين هنا ضيوفكم، وليسوا ضيوف الأوروبيين البيض، هم ضيوفكم، فقط لونهم أبيض، ولكنهم مسلمون"، وأنشأنا علاقة بينهم" 

علي الكتاني 

كما أن إسهاماته في إسبانيا كانت بارزة وغير مسبوقة، فهو الذي استرجع مسجد القاضي أبي عثمان الشهير بقرطبة، وأسس أيضاً عدة جماعات إسلامية تربط المسلمين في إسبانيا كلها، كانت من ثمارها أن دخل الكثير من الإسبان في دين الإسلام.

ليس ذلك فحسب، بل أسس أول جامعة إسلامية في قرطبة، جامعة ابن رشد الإسلامية والتي بقي من خلالها يدعو إلى الله حتى آخر أنفاسه.

وكنت لترى بساطته في أن تشهد بعينيك مغزى كل ما يقوم به من جهود، إنما كانت تصب في مصب واحد، ألّا يكون الإسلام غريباً في ديار حلَّ عليها يوماً.

لنعُدْ إلى القصر، حيث يجلس الدكتور علي الكتاني والدوقة لويزا بعد أن شهد بأم عينيه كنزها المخفي، والذي كانت تخشى الدوقة عليه من الضياع بعد موتها، أو أن يقوم الإسبان بحرق هذه الوثائق المهمة.

“إلى يومنا هذا يعدمون الوثائق التاريخية المضادة لخرافاتهم التاريخية التي يحبون إقناع الناس بها” 

لويزا دي توليدو 

 

  كانت وصيته لها بأن تحفظ كل هذه المعلومات التي تحصلت عليها في كتاب تسرد فيه كل ما جاء في الوثائق، وبالفعل كان ذلك، وخرج كتابها (أفريقيا ضد أمريكا) Africa versus America   إلى النور مثيراً الكثير من الضجة في إسبانيا وخصوصاً بين اليمين المتطرف. 

 

 

ليلة الثلاثاء ١٥ محرم ١٤٢٢ الموافق ٢٠٠١م، يخرج الدكتور علي من مكتبه قبيل صلاة الفجر، كان يشعر بأنها الأنفاس الأخيرة، يوصي (مصطفى) حارسه الشخصي بآخر رغباته في الحياة فيقول:

 "إنني أموت، خذني إلى المغرب"

وبالفعل توفي الدكتور في مكتبه وهو جالس على الأريكة، كانت بلاده المغرب على موعد مع جنازة مهيبة حضرها حشود من الناس الذين تأثروا بوفاته، ومن ثم يصلى عليه صلاة الغائب في العديد من البلدان الإسلامية، رحمه الله رحمة واسعة.



شارك هذا المقال :
الدولة: إسبانيا


بحث