الاجتماع السري لشعب البتاوي
تغلق الأبواب وتسدل الستائر، وها هي القناديل تضاء، رائحة الوجبات الخفيفة تملأ المكان، خليط من المحبة والألفة يغمر قلوب الجميع هنا في هذه الغرفة الصغيرة، اجتماع ممتد للأجيال.
تغلق الأبواب وتسدل الستائر، وها هي القناديل تضاء، رائحة الوجبات الخفيفة تملأ المكان، خليط من المحبة والألفة يغمر قلوب الجميع هنا في هذه الغرفة الصغيرة، اجتماع ممتد للأجيال، كل أفراد العائلة حاضرون، كبيرهم وصغيرهم، يستمعون بإنصات إلى قصص من الماضي، وبعض حوادث الحاضر أيضًا، إنه تقليد أصيل لدى شعب (البيتاوي) المسلم، سكان (باتافيا) قديمًا؛ إندونيسيا اليوم.
تخيَّل معي أن نتطفل قليلًا على هذه الاجتماعات السرية، نستمع تارة إلى شيخ يصرُّ أن يشرح للصغار - للمرة الألف بالتأكيد - عن شجرة العائلة الممتدة إلى أبعد مكان، وعن شيخهم الذي أتاهم من مكة معلمًا، وكيف أن أجدادهم اعتنقوا الإسلام منذ قديم الزمان، منذ أن كانت (جاكرتا) بمسماها الحديث الآن بلدًا اجتمعت فيه الأعراق من كل أنحاء العالم، صينييون وهنود وعرب مسلمون أيضًا، أتوا لتبادل التجارة والمنافع، ومن ثم كان الإسلام.
وعلَّ آخر من الكبار يضيف نكهة حماسية أخرى على الحوار، فيحدثهم عن "الملك الصالح" أول ملك مسلم لباتافيا، ومن ثم يسرد كيف واصل مسلمو شعب البيتاوي اهتمامهم بدينهم، وكيف أن بعض عاداتهم الإسلامية الفريدة اليوم، كانت جزءًا أصيلًا من تراث قديم توارثوه تباعًا منذ القدم.
"هل تعلمون أننا قديمًا وقبل أن نعبد الله الواحد الأحد كنا نشتري الكثير من الفواكه والحبوب، ونضعها في سلال كبيرة، ونقدمها لآلهة لا تملك نفعًا ولا ضرَّا؟ ثم بعد أن دخل الإسلام قلوبنا، صارت هذه العادة شيئًا آخر تمامًا… بماذا يذكركم هذا؟"
يجيب أحد الصغار متحمسًا: "نفعل ذلك في رمضان، إنه أحد احتفالاتنا المهمة للغاية"
نعم، ولأن البيتاوي شعب أصيل محب لتراثه، ومحب للإسلام الذي وقر في قلبه، خلق من بعض عاداته الوثنية البائدة أخرى دينية توازيها وتحل محلها وتحيا بينهم، فأصبحت الفواكه تشترى لا لأصنام أو آلهة خيالية، إنما كنوع من الاحتفال بقدوم شهر رمضان المبارك، يجتمع حولها الكل شاكرين المولى على بلوغه.
وحتى هذه الغرف المغلقة التي تحيي اجتماعًا عائليًا أصيلًا في تراثهم تصبح طقسًا يمتد إلى أوسع من ذلك، كأسلوب حياة يتجدد دائمًا ليظل محافظًا على هويتهم ضد تيارات العالم المتغيرة.
هنا يتساقط المطر، ينتقل الجميع إلى الشرفة بناء على اقتراح الجدة، لرائحة المطر ديدن عجيب يعيدك إلى أصلك وتاريخك، ربما لأنها ذاتها ظلت ملازمة لهطوله على هؤلاء العلماء الأوائل الذين أحدثوا تغييرًا كبيرًا في شعب البتاوي المقرّب بطبعه إلى خصال الاسلام.
تبدأ حكاية أخرى هذه المرة، عن (الشيخ قرو)، يقال: إن الشيخ قرو قدِم من مكة ليعلم البتاوي قراءة القرآن، ويُحكى أنه كان له صوت عذب مليء بالحنين حين يتلو الآيات بالقراءات المختلفة، وله طلاب تتلمذوا على يديه ليصبحوا علماء من بعده، كما أنه ساهم في افتتاح أول مسجد صغير تحول عام ١٤١٨ إلى مدرسة داخلية إسلامية .
تقاطع إحداهن هذه الرواية! فالشيخ قرو ليس الوحيد الذي أحدث تغييرًا جوهريًا، دعونا لا ننسَ (سيتي زبيدة) الداعية الإسلامية التي استطاعت بفكرة عبقرية جمع أموال لإنشاء مدرسة داخلية للفتيات المسلمات يتعلمن فيها القرآن، حبر وورق، خطت (سيتي زبيدة) كتابًا يوضح كيفية صلاة التراويح وصلاة العيدين، قامت بطباعة الكتاب وبيع النسخ لطلابها ومعارفها، وبهذه الأموال تمكنت من تمويل المدرسة التي تعطل بناؤها لفترة... فيالها من همة.
يسود الصمت وأمارات التأمل بادية في أعين الشباب، بينما تلاعب النسمات اللطيفة الصغار فيستسلمون لنوم عميق، ينتهي اجتماع هذه الليلة، ويشعر الجميع بالامتنان لما صاروا إليه، ربما يدور بخلد أحدهم تساؤل: هل ستنسى الأجيال القادمة أهمية الصلة الممتدة بين الحاضر والماضي؟ أم إنهم سيظلون متمسكين بهذه الطقوس الفريدة لشعبنا، والتي تعرفهم بتاريخهم وتجدد في دواخلهم روح الإيمان ما داموا أحياء.