شارك هذا المقال :


الأموي الأخير

الدولة: إسبانيا

الأموي الأخير في جبال البشرات.. كيف قاتل محمد بن أمية ورجاله، النصارى من أجل إستعادة غرناطة؟

ينسحب بهدوء وهو يحمل بيده قليلاً من متاعه، فتتلقفه الأزقة الباردة، يساعده في الهرب موجات البرد القارسة والظلام الحالك، فينساب بين الطرقات الخالية خارجاً من غرناطة، ينضم إليه آخرون، إنها المرة الأخيرة التي سيرى فيها الجميع مدينتهم التي أحبّوها..

هل كانوا يعلمون ذلك؟

في مكان ما من هنا تقع بزنار (beznar)، القرية التي استقبلت محمد بن أمية  ليلةَ أعياد الميلاد من العام 1568م، تُرى كيف كانت تبدو؟ وكيف سلك ابن أمية وأصحابه مسارات ذاك الجبل؟ جبل البشرات وقممه المغطاة بالجليد، وحيث الشتاء القارس، ونتف الثلج المتساقطة، فبزنار تقع في أعلى جبال البشرات بعيداً عن أعين النصارى، وهو المكان الذي اختاره هو ومن معه للاحتماء فيه وشن هجماتهم على غرناطة لاستعادة حكمهم الذي ضاع منذ أكثر من (75) عاماً.

كان محمد بن أمية ما يزال وإلى تلك الساعة يحمل اسمه النصراني الذي أُجبر عليه (فرناندو دي فالور)، وكان جزء من عائلتة، عائلة آل فالور الثرية قد وصلوا معه، في محاولة لإستعادة اسم العائلة التي ينتمون إليها (بنو أمية) وقبل ذلك استعادة مجدهم الذي سُلب..

بدت بزنار تلك الليلة كعروسة زُفّت للتو، إذ زينت الأضواء الخافتة نتف الثلج المتساقطة وطبقات الظلام، ثمة بيت كان أكثر إشراقاً وبهجة.

لقد بدأت الاحتفالات بقدوم ابن أمية، وحيث تمضي مليئة بالحماس والحرية إلى قرب الفجر، لطالما افتقد الجميع هذه المشاعر، يتخلّى ابن أمية عن اسمه النصراني القشتالي الذي حجب أصله العربي ويُعلن عن اسمه الحقيقي تخليداً لعائلته التي حكمت الأندلس لقرون، فيما يكشف الجميع عن هويتهم الإسلامية، حتى أهازيجهم وملابسهم وأعلامهم .

 

 

يتسرب صوت شجي طالما اشتاق الجميع لسماعه، فيصطفون لأداء صلاة الفجر، وتتعالى الأدعية بعدها ثم القسم؛ النصر أو الشهادة ..

هل اكتملت الخطط ؟ ..

مع تتويجه عمد ابن أميه إلى تعيين عمه ابن جوهر، ( فرناندو الزغوير ) قائداً عاماً للجيش، وفرج بن فرج كبيراً للوزراء ..

الرجل الأخير كان هو الآخر قد قدم سراً من غرناطة وتحديداً من أحد أشهر أحيائها ..

اشتُهر فرج بجهاده وقيادته للكثير من الهجمات داخل غرناطة، فقد كان يستعد قبل وصوله إلى جبال البشرات للهجوم على الحامية التابعة لقلعة وقصر الحمراء المطلّ على حي البيازين وذلك بعد أن نفّذ هجوماً مماثلاً قبلها بأيام خارج غرناطة، لكن بعض سكان البيازين كانوا يخشون من الانتقام إذا فشل الهجوم، فطلبوا من فرج الخروج، ففعل خشية إيقاع الضرر بهم.

ففي البيازين تتركز العصبة الأقوى من الأندلسيين منذ سقوط غرناطة والتي قامت بتنظيم صفوفها لمواجهة ازدياد الظلم والاضطهاد الكبير وذلك بُعيد صدور قانون فيليب الثاني في العام ١٥٦٦م، إذ شعر الجميع بأنهم على موعد مع القطيعة الكبيرة مع دينهم وتراثهم وأجدادهم، فكان عليهم التفكير في الخروج من هذا المأزق، لم يكن هناك سبيل إلى ذلك بغير الجهاد وهذا ما فعله فرج وغيره، غير أن الحكمة دفعتهم للابتعاد إلى حيث جبال البشرات..

ففي الأيام التالية لتلك الليلة وصل المئات من الفرسان والرجال بأموالهم وعتادهم وأسلحتهم، إذ سرى خبر ابن أمية وتنظيمه سريعاً فالأرواح متعطشة للخلاص ..

مع يوم التتويج كان قد اجتمع أكثر من ستة آلاف في بزنار والقرى التي حولها بين جبال البشرات، كانت تجمع لأجل البدء في حرب عصابات طويلة، حدث هذا بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس بما يقرب من الثمانية عقود..

 

 

كانت الكنائس ودور العبادة والقساوسة أول المستهدفين وذلك انتقاماً مما أحدثوه من محاكم التفتيش، لكن محمد بن أمية لم يرضَ بذلك حتى إن الكثير من المؤرخين الإسبان لم ينسوا له ذلك فوصفوه بأنه أقل دموية من وزيره فرج ..

اضطر ابن أمية لتغيير فرج بآخر فلم يتمرّد فرج بل عاد إلى صفوف الجيش جندياً لخدمة قضيتهم ..

مع الأيام توسعت محاور المعارك إلى المدن، فشملت كل أطراف غرناطة والمدن التي تتبعها مثل ألمرية ووادي آش وقرى وادي المنصورة، انزعج فيليب الثاني من هذا التقدم فعزل قائد جيشه ليعين بديلاً عنه أخاه دي خوان دي استوريا، وهكذا بدأت موازين القوى بالتغيّر، تراجع الموريسكيون مرة أخرى إلى مواقعهم وسط الجبال وبدأت الخلافات تدب بسرعة، وقعت أم ابن أمية وزوجته في الأسر، فضيق الإسبان على معسكرات الثوار، ثم قتل محمد بن أمية في ظروف غامضة، تولى القيادة محمد بن عبو، لفترة  من الزمن، فأبلى بلاءاً حسناً ولكنه هو الآخر يقتل نتيجة الخيانات التي ظهرت بين المجاهدين..

حدث كل ذلك خلال عامين وثلاثة أشهر، بدأت الثورة في أواخر ديسمبر بينما كانت نتف الثلج تغطي ممرات جبال البشرات، وانتهت في الوقت الذي بدأ فيه الزهر ينبت في بدايات الربيع من العام ١٥٧١م ، 

لقد كانت آخر المحاولات لاستعادة غرناطة..

لكن ما حدث بعد ذلك كان مأساويا..

نقل فرناندو كل سكان البشرات إلى قشتالة، وتم إخلاء ٢٧٠ قرية مسلمة وأُسكن فيها النصارى، تم نقل أكثر من ٨٠ ألف مورسكي إلى جهات مختلفة من مملكة قشتالة..

ها هي ممرات البشرات تنبض من جديد، ومعها أزقة غرناطة..

فيما تحتفظ جدرانها وممراتها بعبق الماضي ..



شارك هذا المقال :
الدولة: إسبانيا


بحث