البر الجزائري
ضفة للموت وأخرى للحياة، تلك التي كانت تفصل طرفي المتوسط، فحينما سقطت آخر قلاع الأندلس لم يكن أمام الناجين من محاكم التفتيش سوى الهرب، فكانت الضفة الأخرى الملاذ الأمن، تلك قصتهم..
يتنفس الصبح مطلقاً أولى شهقاته ليعلن ولادة نهار جديد... أما هم فيحثُّون الخطى ليقطعوا السهل الخالي الممتد قبل أن تفضحهم أشعة الشمس، يتجمعون خلف تلة ترابية تمتد لعشرات الأمتار مختبئين بين الأحراش، يكتمون همساتهم المتهدجة، وقد أنهكهم الخوف والترقُّب قبل أن ينهكهم التعب من المسير طوال الليل، تؤدّي طائفة منهم صلاة الفجر بينما تراقب أخرى الأرجاء محاولين ألا يخدشوا الصّمت المطبق على الأنحاء، صمت لا يشوبه إلا صرير جنادب الليل وأصوات عواء ذئاب تتناهى إلى أسماعهم من بعيد، "لا بأس بصوت الذئاب" يقول لسان حالهم، فهي أرحم من الوحوش البشرية التي تلاحقهم.
لم يكن هدفهم الراحة، فوجهتهم لم تعد بعيدة، ولكنهم كانوا يدركون أن السير في وضح النهار يعني أن يتعرض الجميع لخطر الاعتقال والتعذيب والموت، والأصعب من ذلك، الإجبار على ترك دينهم وتبديل أسمائهم وهويتهم والرضا باجتثاث جذورهم، هم المسلمون الذين حوّلهم الإسبان إلى المورسكيين، بعد أن كانوا أسياد الأرض على مدى ثمانية قرون تقريباً.
جلسوا ينتظرون حلول الليل مرة أخرى ليتابعوا طريقهم إلى حيث يأملون بأن تكون نجاتهم، ينتظرون لحظة العبور بين الموت الذي خلفهم والحياة التي أمامهم، هاربين من جواسيس وعيون جنود الملك فرناندو الذين يلاحقون كل ما يمتُّ للإسلام والمسلمين بصلة، حتى وإن كانت ذبابة وقفت ذات يوم على كتف رجل مسلم، ويرجون الخروج من هذا الجحيم عبر الساحل الجنوبي للأندلس هناك حيث تنتظرهم سفن إيالة الجزائر.
كانت تلك حالهم بعدما فقدت الخلافة الإسلامية في الأندلس هيبتها وعصفت بها النوازل والنكبات ووصلت إلى حالة يرثى لها من الضعف والتفكك إثر حروب الاسترداد التي شنَّتها ممالك الشمال المسيحية على الثغور الأندلسية، وانتهت بسقوط آخر المعاقل في غرناطة، عندما سلم أبو عبد الله الصغير سليل بني الأحمر مدينة غرناطة لفرناندو ملك أراغون وزوجته إيزابيلا ملكة قشتالة في اتفاقية كان من ضمن بنودها ضمان حرية الدين والعبادة للمسلمين، ولكن سرعان ما نقض الإسبان عهودهم وبدأوا بالتضييق على المسلمين شيئاً فشيئاً حتى صدر قرار من الملك الإسباني بتخيير المسلمين تغيير دينهم أو الخروج من الأندلس ثم ظهرت محاكم التفتيش الكاثوليكية التي سامت المسلمين كل أنواع العذاب وأشكاله لإجبار المسلمين على اعتناق المسيحية.
لكنهم كانوا يسيرون في ذلك اليوم من عام 1529م كفراشات انجذبت نحو بصيص من الأمل ظهر لهم من صوب الجنوب حيث ينتظرهم البحر الأبيض المتوسط، فمع السقوط النهائي لغرناطة عام 897هـ/1492م، أرسل العثمانيون حملات بحرية منظمة بفترات متقطعة متباعدة بقيادة كمال وبيري رئيس إلى الساحل الجنوبي للأندلس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتمكنوا من نقل ما يقارب 300 ألف مسلم إلى المغرب والجزائر.
وفي تلك الفترة أعلن خير الدين بربروس حاكم الجزائر ولاءه للدولة العثمانية، وهكذا أصبح خير الدين والي الجزائر وقائد البحرية العثمانية فيما بعد حجر الزاوية العثمانية في هذه المنطقة من غرب المتوسط، والذراع الإسلامية التي ستتدخل للتخفيف من محنة المورسكيين، وهذا ما حدث بالفعل.
يستأنفون سيرهم بقطع من الليل وتتلقفهم الطرق الصخرية الوعرة لتزيد من عذاباتهم ولكنهم رغم ذلك ينسلُّون عبرها نزولاً نحو الشاطئ، هناك حيث عبر قبلهم الآلاف إلى الضفة الأخرى تاركين خلفهم ذكريات لا يمكن للزمن أن يمحوها وستظل محفورة على صفحات التاريخ، وعند النقطة المتفق عليها تتوافد جماعات أخرى من المسلمين الهاربين، يتنفسون الصعداء جميعاً بينما تتهادى السفينة بهم في عرض البحر متجهة، بالنسبة لهم، نحو حياة جديدة.
كانت تلك واحدة من سبع رحلات أرسلها خير الدين بربروس لإنقاذ المسلمين عام 1529م بعد أن قضى على قلعة البينون الإسبانية في عرض البحر أمام مدينة الجزائر في ذات السنة، وأرسل بعد ذلك 36 سفينة نقلت أكثر من سبعين ألفاً من إخوة الدين المستضعفين.
سيصل المورسكيون إلى الجزائر وسيستقرون في حواضرها مصطحبين معهم حرفهم التي تعلموها هناك في أرض الأندلس وسيساهمون في ازدهار الجزائر، وسيظل التاريخ يذكر دور البحرية الجزائرية في إنقاذ المسلمين المضطهدين بعد سقوط الأندلس.