شارك هذا المقال :


إمرأة من غرناطة

الدولة: إسبانيا

امرأة من غرناطة.. ما الذي في حي البيازين؟

يغطي وجهها الكثير من الحزن، ومع ذلك تقاتل من أجل مستقبلها الجديد، حينما أسلمت لفظها الجميع، ومن سوء الحظ أنها تزوجت برجل مسلم كان أبعد ما يكون عن دينه.. 

تحاول أن تلملم حجابها وتضبط توازنها وهي تمشى وسط أزقة البيازين الواقعة شمال شرق غرناطة، حيث ولدت وتعيش، تحتفظ وجهها بملامح أندلسية لا تخطئها العين رغم أنها تقول: إنها إسبانية أباً عن جد.

عاشت وترعرعت على تلك التلة المواجهة لقصر الحمراء، حيث كانت تزوره وتجلس في داخله تراقب تلك الكتابات على الجدران، "لا غالب إلا الله"، وحينما بلغت العقد الثاني عرفت حقيقة هذه العبارة فأسلمت من نفسها..

تبدو الأزقة في هذا الحي كمتاهة لا تنتهي، لكنها متاهة أنيقة تغريك التفافاتها بالسير دون توقف، إذ مازال البيازين يحتفظ بطرازه الأندلسي منذ (٥٠٠) عاماً على الرغم من كل محاولات التغيير التي قام بها ملوك إسبانيا بعد سقوط غرناطة، فهو الحي الأكبر والأقدم..

فبُعيد انتصار المسلمين وفتح غرناطة تجمع العرب والمغاربة القادمون مع جيوش الفتح في البيازين كان ذلك قبل ٨٠٠ عاماً..

وقد عمدوا إلى بناء بيوتها بشكل متلاصق لتشكل تلك الأزقة الضيقة والمتقاطعة والمزيّنة باللون الأبيض الجميل روح البيازين.

قبيل إسلامها وبينما كانت ما تزال طفلة صغيرة سمعت من والدها وهو يتحدث عن مسجد غرناطة الذي استغرق بناؤه عشرين عاماً، وعن الخلاف الذي كان بين المسلمين والنصارى في غرناطة، فهو أول مسجد جامع يبني بعد سقوط غرناطة بـ(٠٠ ٥) عام، كان ذلك بالتحديد في عام ٢٠٠٣م.

ذات مساء صيفي جميل، قررت أن تذهب إلى هناك لتعلن إسلامها، مرت عبر الوادي الذي يفصل قصر الحمراء عن التلة التي يقع عليها المسجد، تبدو المنارة عالية وواضحة، برغم احتجاج نصارى غرناطة على ذلك، تتذكر من حديث والدها كيف نجحوا في إجبار المسلمين على تقليص ارتفاعه بنحو عشرة أمتار، وذلك بعد أن رفضوا منح المسلمين تصاريح البناء، إلا بعد مراجعة تصاميم الجامع..

 

 

كانت المرة الأولى التي تدخل فيها مسجداً، لكنه بدا لها كشيء مألوف نوعاً ما، فالزخارف والأبواب ولون الجدار لا يختلف كثيراً عن بعض بيوت البيازين، حينما سألها الإمام عن اسمها قالت له: فاطمة، وهكذا تخلّت عن اسمها القديم، لقد أصبح ذاك تاريخاً مضى..

طيلة الأيام التالية لإسلامها، كانت فاطمة تحاول أن تتعرف عن قرب على دينها الجديد وتاريخها، كانت تعرف أبرز المعالم التي يشتهر بها البيازين، مثل دار الأميرة عائشة الحرة والدة أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة، وقصر الضيافة الذي بناه الموحدون عام ٦١٥ هجرية والذي امتلكته عائشة الحرة لاحقاً، لقد بدأت بالاطّلاع على قصة هذه المرأة التي جاهدت لتمنع غرناطة من السقوط، تحاول أن تعرف عنها المزيد من زوجها الجديد لكنه كان رجلاً لاهياً لا يفقه الكثير عن تاريخه، تقول ضاحكة: إنه مثل عبد الله الصغير أضاع مُلْكه ودينه .

حينما سقطت غرناطة تحوّلت الكثير من القصور والمساجد الإسلامية التي في حي البيازين إلى دور وكنائس، فالمنارات التي تزين اليوم كنيسة سان جوس على سبيل المثال كانت في الأصل منارة لمسجد المرابطين أحد أقدم جوامع غرناطة أما الذي على كنيسة خوان دي لوس ريس فقد كان لمسجد التائبين..

لا يقع الجامع الكبير بعيداً عن ساحة سان نيكولاس أحد أشهر الأماكن السياحية في غرناطة، ولذا ترى فاطمة نفسها محظوظة، فهي تحب هذا المكان كثيراً لا سيما وأنه يقدم للزائر منظراً بانورامياً مذهلاً لغرناطة وقصر الحمراء، كم كانت جاهلة عن هذه المسافة بين المسجد الذي أحبته وهذه الساحة..

أخيراً أصبح بإمكانها الصلاة هناك والاستمتاع برؤية الغروب، ما أجمل مشهده من هذه الساحة، هناك خلف شجرات الزيتون يقع قصر الحمراء حيث تعرّفت على الإسلام وليس بعيداً عنها المسجد حيث تتعلّم اليوم الإسلام..

 

 

تقودها خطواتها عند المساء عبر حي ساكرومونتي، هذا هو الجزء الذي تعترف به من حياتها، تضحك كثيراً، إنه مكان مميز ومختلف عن أجزاء البيازين، لا تنفكُّ أنغام الفلامنكو تضجّ هناك طوال الليل، جميلة تلك الرقصات، لكنها حزينة، يقال: إنها تمثل التاريخ المشترك بين الموريسكيين والغجر، وقد تشاركوا الحزن الذي ألمّ بهم سوياً، هل تعترف فاطمة بأن أصولها من الغجر؟ أحياناً تقلّب صورها وهي صغيرة فترى كيف كانت تحب ارتداء ملابسهم، كان والدها يعزز فيها هذا المفهوم، لكنها اليوم تتجاوز الماضي، فإسلامها أقوى من كل ذلك..

الشيء الوحيد الذي لم يتغير في حياة فاطمة الجديدة هو جلوسها الصباحي في أحد المقاهي العتيقة في ساحة بلازا نويفا، اعتادت أن تتناول إفطارها الأندلسي هناك على الخبز المحمص وزيت الزيتون وصوص الطماطم بينما تحتسي قهوتها الإسبانية، المخلوطة بالحليب، إنه نوع خاص ومميز..

بالرغم من تميُّز هذه الساحة بالمباني الحديثة والأنيقة إلا أنها ما زالت تحمل روح الأندلس فهو ليس بعيداً عن البيازين بل جزء منه كما تقول، فحيوية المكان ونشاطه يذكرها بما قرأته عن البيازين قبل خمسة قرون، إذ كان مكاناً ينعم بالنشاط بفضل سكانه من الأثرياء والحرفيين المهرة، وذلك قبل أن يقوم الملك فيليب الثاني بطرد المسلمين منه وإخلائه تماماً بعيد سقوط غرناطة.

تُرى هل تساءلت فاطمة يوماً عن سبب تسمية البيازين بهذا الاسم؟ كعادة المدن العتيقة تختلف الأساطير والقصص حولها، هل تُراه يرجع إلى البزاة والذي هو نوع من الصقور التي كان أهل غرناطة يحبون تربيته وتدريبه على صيد الطيور البرية مثل البط والأرانب؟ وهذا ما هو موجود إلى اليوم في قرية بزنار التي سكنها محمد بن أميه، أم إن الاسم يعود إلى مدينة (بياسة) والتي تقع شرق الأندلس والتي يقال: إن سكانها قد نزحوا منها إلى البيازين.

أياً كان فالبيازين اليوم ما تزال باقية، تحمل تلك الروح التي ما يزال عبقها باقياً بين جدرانها وأزقتها..

 



شارك هذا المقال :
الدولة: إسبانيا


بحث