أسلمتُ في طنجة
ذاك المشهد علق في ذهني وأنا في طريقي إلى طنجة، تلك المشاهد البيضاء في المدينة أيضاً، الأصوات، الطرقات، الناس، والأهم صلواتهم، لقد جئتُ إلى هنا للهروب من الحياة، فوجدت حياة أخرى ملأت روحي .. اسمي ويليام هنري كويليام، وهذه قصتي ..
كان موج البحر يميل بالسفينة على جانبيها بينما تمضي إلى وجهتها نحو المغرب العربي، على سطحها رجال يرتدون ملابس بيضاء، لباس الإحرام، يسقطون دلواً إلى البحر فيمتلئ بالماء، يغسلون أيديهم ووجوههم وأرجلهم، يقفون صفاً للصلاة لا يعبؤون بالموج ماذا يفعل بهم، هم في صلاتهم منشغلون، وهو منشغل بهم! متعجب مما يراه، من هؤلاء وماذا يفعلون؟
هكذا بدأ شغفه يتَّقد نحو معرفة كل ما يتعلق بالمشهد الذي رآه، هكذا كان فطناً لماحاً محباً للحقيقة.. إنه ويليام هنري كويليام أو كما أسمى نفسه فيما بعد.. عبد الله
أشرقت شمس طنجة المغربية بدفئها في أحد أيام عام ١٨٨٧م على قلب (عبد الله)، إنه المحامي البارع ذائع الصيت المولود في بريطانيا عام ١٨٥٦م، خريج معهد ليفربول الملكي وكلية الملك ويليام، الأشهر على الإطلاق إذ تراه يترافع في أعتى القضايا في محاكم ليفربول وبريطانيا كلها.
وهو أيضاً تلك الروح التواقة للعلم، المحبة لعالم الحيوان وعلومه، للكتابة والتدوين بل وأبعد من ذلك! فقد كان خطيباً مفوهاً أيضاً.
شكّلت رحلة المغرب هذه فارقاً كبيراً في حياته، رغم أنها كانت ضريبةَ عمله الدؤوب الذي أنهك جسده، فبعد أن شعر بالإعياء لشدة تركيزه في المحاماة نصحه الأطباء بالسفر للاستشفاء في فرنسا أو إسبانيا، ثم ساقته أقداره نحو المغرب، إلى طنجة! محبةً في الاستكشاف.
هناك عرف الإسلام عن قرب، أصوات الأذان تخللت قلبه، رؤية المصلين صفاً واحداً يؤمهم رجل واحد! ما هذا الدين الذي يحرم الخمر؟! وكأنه وقع له في جرح، فهو نفسه قاد فيما مضى حملة شرسة ضد شرب الخمور في بريطانيا قبل أن يعرف شيئاً عن الإسلام.
ثم كانت تلك اللحظة الفارقة حين قرأ نسخة مترجمة لمعاني القرآن الكريم، وَقَرَ بها الإسلام في قلبه وأحدث فيه الكثير ليصبح وليام بعدها ليس كما مضى.. ليصبح عبد الله
يقول: "عندما غادرت طنجة كنت قد أصبحت مسلماً، بعد أن استسلمت بالكلية لقوة قاهرة، لم أملك حيالها إلا الاعتراف بأنَّه الدين الحق"
لنأخذ جولة في تلك الأيام بعدما عاد عبد الله مسلماً من طنجة، عام ١٨٨٦م وبالتحديد في ليلة عيد الميلاد، تجد مجموعة من المسلمين في قاعة الدرس، يصلون جماعة خلف إمامهم عبد الله كويليام، كانت هذه الصلاة هي البداية التي حولت المكان إلى مسجد لاحقاً، ومن ثم إلى معهد لمسلمي ليفربول الأول من نوعه، كنت لترى بأم عينيك صفوف الفقراء الذين أتوا إلى هنا كي ينعموا بوجبة دافئة تقدم لهم، بينما آخرون جاؤوا كي يعرفوا أكثر عن الله.
لم يتوقف سعي عبد الله عند هذا الحد، بل نشر كتاباً بعنوان عقيدة الإسلام أسهم في إسلام العديدين حول العالم، ولكثرة الطلب عليه ترجم إلى ١٣ لغة! لم يكن ذلك مؤلَّفه الوحيد، بل استمر بالكتابة أكثر عن الإسلام، سواء في مجلته التي أسسها أو حتى بعض مقالات شهرية وأسبوعية أو إصدارات من الكتب.
"الحمد لله الصالح في ذاته بلا حدود، الذي فضّلنا بهداية الدين الإسلامي الحنيف، والذي أمرنا أن نكون إخوة متّحدين، وجعل وحدة الأمة بمثابة قانون لا يسقط أبداً؛ بل هو باقٍ ما بقيت آيات الذكر الحكيم"
ذلك حال لسانه وقلبه وعمله، فحق له أن يُذاع صيته حول العالم….
ترى السلطان عبد الحميد وهو يلقبه بشيخ الإسلام في بريطانيا، وترى شاه إيران يعينه نائب القنصل العام لبلاده في المملكة المتحدة، وتراه أيضاً يجوب غرب أفريقيا دولة دولة، يبني هنا مسجداً ويفتتح آخر هناك، ويسهم بالكثير من الأعمال الخيرية بيديه لكل مستحق لها…
رغم كل ذلك، إذا به يجلس متواضعاً بين الأطفال الصغار يعلمهم أمور الدين، فلا أثمن منهم ليحظوا بنصيب خاص من الإرشاد؛ ثمرات الأجيال القادمة.
في عام ١٩٣٢م توفي عبد الله كويليام ولم يترك باباً إلا وطرقه في سبيل نشر الدعوة، بقي أثره في نفوس مسلمي بريطانيا حتى اللحظة، لكأنك تراهم في روح المكان لا يزالون هاهنا في مسجده يصلّون الجماعة مع المسلمين حتى يومنا هذا.