بقيّ بن مخلد .. وتلك الرحلة ..
من إسبانيا إلى بغداد، تأخذه الرحلة مشياً على الأقدام، يصل بعد (6) أشهر ليجلس كتلميذ مجتهد عند الإمام أحمد، فبهِ كما قال الذهبي: "صارت الأندلس دار حديث" هذه قصة بقي بن مخلد وأثره الذي لم تأكله نار باب الرملة.
أجيج النار أحرق كلَّ شيء، شعلتُها التي علت في السماء حتى كادت تصبح شمساً أخرى لم تنطفئ قط في قلوب هؤلاء الصامتين الذين ينظرون بحذر، كان الرماد المنبعث كثيفاً هنا في (باب الرملة) بغرناطة، لقد مرّت سبع سنوات منذ ذلك السقوط، وها هي كتب المسلمين تفوق المليون مخطوطة من أعظم مؤلفات الأندلس، تُجمع وتلقى سوياً، ثمّ تُحرق على مرأى الجميع، تدمع أعينهم سرّاً، أولئك النصارى قسراً (الموريسكيون) الموحِّدون في أفئدتهم حتى اللَّحظة الأخيرة.
من بين تلك المؤلفات العظيمة، تأكل النار تفسير القرآن لصاحبه (أبو عبد الرحمن بقيّ بن مخلد) الذي قال فيه الإمام أبو محمد بن حزم: "أقطع أنه لم يؤلّف في الإسلام مثل تفسير بقيّ".
ها هي النار تخفي ملامح مسنده أيضاً، ذلك المسند الذي عاش بقي بن مخلد حياة كاملة لأجل جمعه وتدوينه، وهي قصة يصعب تخيلها.
تخيّل أن تسافر مشياً على الأقدام من حيث أسبانيا إلى بغداد اليوم، أو لنقل من الأندلس حتى بغداد، لا لأجل شيء سوى العلم، هذا ما فعله بقيُّ بن مخلد الأندلسي القرطبي المولود عام ٨٨٩م، كان أحد أهم علماء الأندلس وأكثرهم زهداً وورعاً، كان فقيراً ولكنّه ذو همّة عالية طاوعته فيها قوة جسده، يعرفه أهل الأندلس بنُصرة المظلوم، الشيخ المستجاب الدعوة، لكنّه قرّر ذات يوم ترك الأندلس عندما سمع بإمام عظيم في بغداد قد منَّ الله عليه بعلم وافر لا يوجد في الأندلس!
إلى حيث الإمام أحمد ابن حنبل، أعلم أهل زمانه بالحديث، عُقدتِ الهمّة على السفر، هي رحلة استغرقت ٦ أشهر مشياً على الأقدام تخلَّلتها مدن كالمغرب وتونس ومصر ومكة والكوفة ومن ثم بغداد، يصل بقي وفي قلبة جذوة مريد توّاقة لا تهدأ، يسرع الخطى وهو يسأل عن الإمام أحمد ابن حنبل، ليتغيَّر وجه المسؤول، فالكل هنا في بغداد يعرف ما جرى مع الإمام، إنّه تحت الإقامة الجبرية في منزله، ممنوع أن يحدّث أحداً، أو يحدّثه أحد، بأمر الحاكم (الواثق بالله).
يغتمّ بقيٌّ، وكأنّما أظلمت الدنيا في عينيه، كلُّ هذه المسافات التي قطعها هل تذهب سدىً؟ لا، يظلُّ يسأل حتى يعرف دار الإمام، ومن ثمّ يتنكّر في هيئة متسوِّل، يطرق باب الإمام، ويدور الحوار:
"يا أبا عبد الله، رجلٌ غريبٌ، نائي الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث، ومُقيِّد سُنَّة، ولم تكن رحلتي إلا إليك. فقال لي: وأين موضعك؟! قلت: المغرب الأقصى. فقال لي: إفريقية ؟ قلت: أبعد من إفريقية، أجوز من بلدي البحر إلى إفريقية، بلدي الأندلس"
كان ذلك أول لقاء بين بقي بن مخلد و الإمام أحمد ابن حنبل الذي أعجب بمدى صدقه في طلب العلم، يهدأ قلب بقي، ويحمد الله على الفرصة التي لا يودُّ تضييعها أبداً، ها قد وصل إلى مبتغاه، ولو عنى ذلك الأمر أن يأتي إلى الإمام كلّ يوم في هيئة متسوِّل ليأخذ عنه الحديث والحديثين، حتى جمع منه من الأحاديث والعلوم ماشاء الله، عكف عليها تدويناً وحفظاً حتى بانت معالم مسنده، وذاع سيطه في كلّ مكان، إلى أن حانت تلك اللحظة عند باب الرملة، حين احترق كل شيء، وبقيت ذكرى بقي بن مخلد وقصته المأثورة حديث أهل العلم ومجالسه في كل بلاد المسلمين.
يقال: إنه حين كان جنود الإسبان عاكفين على حرق كل كتب الأندلس في باب الرملة، أخفى بعضهم الكتاب والكتابين في معطفه لما وجد فيها من السحر الذي يأخذ باللّبّ، ذلك البهاء الذي سطّر به العلم، تلك الطريقة التي كتبت بها الكلمات بماء الذهب، كل شيء فيه ريح الأندلس كان بهيّاً بشكل لا يصدَّق.. لعلَّ أحدهم أنقذ شيئاً من عِلْم (بقي)، ولربَّما تجود به الأيام القادمات لأجيال أخرى ستظلُّ تذكر قصته الساحرة بعون الله ، تشحذ بها الهمم إلى ماشاء الله.