بروناي تقاوم بالعربية
تبهجك بروناي بتصاميمها المعمارية، تزيدك مساجدها بمناراتها روحانيةً، فتجد نفسك بين كلّ لحظة وأخرى فى حضنها الإسلامي، بين الماضي والحاضر قصة من الصراع الطويل من أجل الإحتفاظ بتلك الهوية، وتلك العربية التي تبدّلت، تُرى ماذا لو عدنا لنكتب بالعربية؟ ربما ذاك ما يحلمون به، أو لنقل بعض من ملامح المقاومة التي تسري .
أنا وأنت متشابهان، قد تفصلنا بعض الملامح المختلفة، أو حتى تضفي الطبيعة (TABIAT) اختلافاً طفيفاً في لون البشرة، ربما لا نمتلك ذات الأعين ولا ذات الإبتسامة، نبدو مختلفين جداً، لكنّنا نمتلك تاريخاً يجمعنا سوياً، الإسلام وسحر (SIHIR) اللغة.
لاحظت هذه الكلمات؟ هذه بعض مما تتشارك اللغتان العربية والملايوية مفرداته سوياً، أي تاريخ هذا الذي وحدنا هكذا؟
ما بين السطور التي تحكي المعاناة التي عاشها أي بلد غني بثرواته في ظل حقب الإستعمار الأوروبي أو الصليبي إن جاز القول، تجد سؤالاً مخفياً لايزال يطرح نفسه وبقوة في كل مرة؛ لماذا اللغة؟ وَماذا تعني الثقافة لهذا الشعب؟ ولماذا يحاول كل مستعمر فرض لغته ودينه وثقافته على أبناء الأرض الأصليين؟ ولعل في هذا السؤال نصف الإجابة .. إن لم يكن كلها
اليوم نحن في (بروناي دار السلام)، هذا البلد المسلم حتى النخاع، والذي يسكنه شعب الملايو مع مختلف الأعراق التي شكّلت تاريخه واندمجت فيه كالهنود المسلمين والصينيين وغيرهم.
بروناي أيضاً لم تسلم من الاستعمار، ظلت فترة طويلة تحت الانتداب البريطاني إلى أن نالت استقلالها عام ١٩٨٤م ولكنها على عكس غيرها ظلت متمسكة وبقوة بإسلامها، تستطيع أن ترى ذلك وأنت تقلب ناظريك من مسجد إلى آخر في باحاتها، يبهجك جمال العمارة المستوحاة من ثقافة الملايو وتأثير الإسلام، المباني ذات الأسقف الشاهقة التي تسمح بمرور الهواء في هذه المناطق الاستوائية، والقباب المزخرفة، ومن ثم تداهمك اللغة مجدداً، هنا تجد الحرف العربي لا يزال معترفاً به، لا يزال يُكتب على اللافتات، هذه هي حروف لغة الملايو الأصلية، الحروف العربية.
تستطيع أن ترى بأم عينيك كيف احتفظ أهل بروناي بإسلامهم و تمسكوا به ضد كل الموجات التنصيرية من خلال النظر إلى اللغة، فرغم أن الملاوية الكلاسيكية اليوم صارت تكتب بالأحرف اللاتينية، إلا أن الكتابة الأصلية لها بالأحرف العربية لم تندثر، وصارت تعرف اليوم بالخط الجاوي أو الكتابة الجاوية.
هذه المقاومة التي تراها في الحروف كانت ذاتها أو أكثر في كل مظاهر الإسلام في بروناي، يرفض هذا الشعب أن يستمد دستوره سوى من الشريعة الإسلامية، يذهلك مدى تنوع فئات المجتمع التي هي على اتصال كبير بالشريعة الإسلامية، لا عجب وهي تدرَّس منهاجاً أساسياً في مدارسهم لكل الطلاب من مختلف الأديان، إذ أنها تعتبر جزءاً من سياسة الدولة لا العقيدة فحسب.
في بروناي يقطع الشباب البحار كي يصلوا إلى أرض مصر، هناك تجدهم بين أروقة وباحات الأزهر الشريف ينهلون من العلوم الشرعية، اهتمام نادر وخاص بالعقيدة، لا يهم أيا كان طريقك بالحياة، فالجندي خريج الأزهر، والطاهي خريج الأزهر، والطبيب كذلك خريج الأزهر، هي موجة من المحبة تجاه الإسلام تستطيع أن تستشعرها في كل زاوية.
بروناي أيضاً لم تكن وحدها في مواجهة التنصير، بل وجدت منذ التاريخ دعماً كبيراً من جيرانها المسلمين الذين يشاركونها ثقافةً ولغةً وبيئةً، تجد مدينة (ملقا) الماليزية التاريخية مثلاً وتأثيرها الضخم في تحويل بروناي إلى الإسلام، تجد أمة كاملة من شعب الملايو يتشاركون ذات الاهتمامات، إذا اتحدوا يصعب أن تُكسر شوكتهم مهما حاول المستعمر غزو الهوية والثقافة ومحو اللغة.
أخيراً وأولاً كان القرآن الكريم، أكبر دافع كي يحتفظ شعب بروناي المسلم بلغته، فالإسلام الذي ساوى بين كل الناس من مختلف الأعراق نزل كالضّمادة على جرح الهوية الذي ما إن وغر في دولة حتى بات يهدمها ويفتك بها، يقول لسان حالهم نحن مختلفون، نحن هنود وصينيون وعرب وملايو، لكننا جميعاً مسلمون في دولة مسلمة، وسوف نستمر كذلك بعون الله.
لذلك، لعله يتبادر إلى ذهنك سؤال أخير، ماذا لو عدنا إلى الحرف العربي مجدداً، كيف سيكون تأثير ذلك على كل تلك البلاد التي فقدت جزءاً أصيلاً من هويتها مع استبدال حرفها العربي باللاتيني؟ ألن يكون ذلك نوعاً من المقاومة المطلوبة ضد المستعمر الذي رحل عنا وبقينا نصارع آثاره لأجيال عديدة دافعين بذلك ثمناً باهظاً قلما تستشعره الأجيال الجديدة وهي تحاول جاهدة الإجابة عن سؤال الهوية المستمر.