هذه القصة من سيبيريا
نائيةٌ ، ومرعبةٌ ، ومع ذلك سكنها الناس منذ القدم ، ومع ذلك أيضاً وصلها الإسلام .. ترى كيف حدث ذلك؟ ومن هم أولئك الرائعون الذين قاموا بهذه الخطوة؟
هذه الأقدام سارت على ثلوج سيبيريا البيضاء لأجل هدف واحد، كلما مضوا فيها أكثر غاصت أكثر في عمق الثلج، وتركت علامات شاهدة حتى يومنا هذا.
هؤلاء هم أبناء (القبيلة الذهبية) من المغول التي أسلمت على يد القائد (بركة خان)، هم أحفاد (جنكيز خان) الذي سفك بجيشه من التتار الكثير من دماء المسلمين، من كان يظن أن أكثر الشعوب بربرية وعداوة للإسلام ستغدو واحدة من أحسنها إسلاماً وأحرصها على نشره.
البرد القارص ذو درجات الحرارة التي تتجاوز الخمسين تحت الصفر لم يمنع القائد المغولي (كوتشيم خان) أحد أمراء القبيلة الذهبية من إرسال الدعاة إلى سيبيريا التي كانت تحت حكمه عام ١٧٥٠م.
من بخارى وسمرقند وخوارزم وقازان، قدِم العديد من الدعاة ملبّين الدعوة، ربما لم يتخيل بعضهم ما يمكن أن يفعله بأس البرد بالإنسان، اليوم تقف على بعض شواهد قبورهم دالَّة على الجهاد الذي قاموا به لأجل الدعوة، رغم فتك صقيع سيبيريا بهم.
آخرون منهم استطاعوا احتمال هذا الطقس، فمضَوا في مهمتهم عازمين، تجد منهم علماء أجلّاء لا يزال نسبهم ممتداً إلى اليوم مثل (دين علي خواجه)، وآخر عُرف باسم (شيخ) وقيل أن قرية (شيخلر) سميت تيمناً به.
اليوم وأنت تسير في سيبيريا يتبدى لك هذا المدّ المغولي الإسلامي الذي ستراه في قسمات الوجوه، فهل كان ذلك فحسب هو سر غالبية المسلمين هنا؟ أم إن لسيبيريا قصصاً أخرى مع الإسلام؟
لكي نجيب علينا أن نفهم أولاً مساحة هذه الأرض وطبيعتها الجغرافية، فسيبيريا تمثل ما نسبته ٧٧٪ من الأراضي الروسية، تمتد شمالاً إلى القطب المتجمد في مناخ متواصل من الشتاء القارص الذي لا يزوره الصيف إلا شهراً واحداً، وحين تدمج هذه الطبيعة المناخية مع المساحة الجغرافية تعرف لماذا هي الأقل تعداداً في السكان…
يتاخم سيبيريا شرقاً المحيط الهادي وتمتد الأراضي غرباً حتى جبال (أورال)، وجنوباً حتى حدود كازاخستان ومنغوليا والصين.
شكّلت الحدود الواسعة حركة للتجارة من مختلف المناطق، فكان التجار المسلمون أيضاً من أوائل الوافدين الذين أثّروا في سكان القرى لصدقهم وأمانتهم، حيث أسلمت قرى كاملة على أيديهم..
تمدَّدَ المغول بقيادة (كوتشيم خان) في هذه المناطق فأسسوا فيها المساجد ما استطاعوا، وعلَّموا فيها الإسلام حتى ظلَّت بعدهم أجيال وأجيال موحَّدة على الملَّة، ثم حان وقت الوداع، وداع هذه الإمبراطورية الإسلامية التي سقطت على يد روسيا القيصرية عندما بدأت الأخيرة باحتلال الأراضي الواقعة شرق جبال الأورال، ومن ثم ترسل آلاف المنفيين إلى سيبيريا بالتحديد كمنفىً لكل من يعارض هذه الدولة الجديدة من المسلمين وغيرهم، والعجيب في الأمر أن مكر روسيا بكل معارضيها صبَّ جلُّه في صالح الإسلام، فكانت أرض سيبيريا هي جنة المنفى التي تعرَّف فيها كل هؤلاء القادمين من شتى المناطق على الإسلام.
تخيَّل أن تحفر حفرة في الأرض ومن ثم تعيش فيها معظم أشهر السنة لكي تتقي بها البرد القارص، هذا ما فعله أوائل المنفيين من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، ومن ثم شيئاً فشيئاً بدأوا ببناء البيوت الخشبية، وبدأت قرىً كثيرة بالظهور والازدهار، وسرعان ما اعتنق أغلبها دين الإسلام.
هذا المنفى المتجمد رغم قسوته بدا وطناً دافئاً للمسلمين جميعهم لا يهمُّ من أي أرض قدِموا، وطناً عاشوا فيه أجمل أيام حياتهم، حتى إنهم رفضوا العودة بعد صدور حكم العفو عن كل المنفيين.
صحيح أنها كانت نهاية حكم (كوتشيم خان) لسيبيريا بحلول ١٥٩٨م، والذي قال مقولته الشهيرة آخر أيامه: "لا أقبل عيش الأسير ولا موت الذليل، ولست أحزن لفقد أملاكي، وإنما حزني من أجل أولئك التعساء الذين وقعوا تحت الاستبعاد الروسي" ثم قاتل حتى استُشهد كما وصف محمد الغزالي في كتابه «الإسلام في وجه الزحف الأحمر»
لا تزال سيبيريا اليوم تعجُّ بالمسلمين في كل قرية ومدينة، لايزالون يتبعون ذلك الأثر الأول الذي غرسته أقدام الدعاة في ثلوجها وكأنهم يرونهم بأعينهم في صلوات المسلمين وما قدَّموه من التضحيات لأجيال مرت من بعدهم.