لماذا كل هذا الإحتفاء بهذا المسلم؟
رنين اسمه لا يفارغ أذنك كلما سرت في بنما . وكأنما أصبح اسمه مرتبطاً تماماً باسم هذه الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى.. ترى لماذا أصبح اسم هذا المسلم خالدا في حياة البنميين وواقعهم اليوم؟
لنقرأ ..
ظلام يغطي المكان، ويسود صمت تشوبه أنفاس كثيرة متلاحقة أتعبها نقص الأكسجين في العنبر السفلي لإحدى سفن الأسطول الإسباني التي تقطع المحيط الأطلسي نحو العالم الجديد...
بين المحتشدين شاب قوي البنية يحاول التشبث بجسم السفينة وفي عينيه بريق من نوع خاص، بريق جعله مميزاً عن غيره، كانت عيناه تصيحان وسط الظلام: "لم أخلق لأكون عبداً لبشر، بل عبداً لله وحده"... كان ذلك الشاب هو "بيانو" الرجل الذي سيُسمى باسمه لاحقاً أحد أنهار بنما.
تترنح السفينة كما لو أنها سكرى فوق الأمواج المتلاطمة قبالة شواطئ بنما لتغربل الحمولة المكونة من مئات العبيد المرحلين من قبيلة الماندينكا التي تسكن غرب إفريقيا، وتتقاذفهم من زاوية إلى أخرى داخل السفينة فيتناهى إلى الأسماع وسط الصمت المشوب همساتٌ تلهج بذكر الله الواحد الأحد..
كارثة بحرية... فرج وتمكين!
كانت السفينة على وشك الوصول إلى وجهتها النهائية في تلك الليلة الدهماء من ليالي العام 1552م الموافق لـ 959 ه، عندما راحت السماء ترسل إشاراتها إلى المحيط المستعد للجنون دون أي تردد، ازداد تلاطم الأمواج فغدت كالجبال واستحالت السفينة ذرة هباء تتراقص وسط الهيجان الهائل..
مع الفجر كانت الأمواج الهادرة ترمي بحطام السفينة والناجين منها إلى شواطئ بنما حيث مدن سان ميجيل، وتشيبو، وباكورا، وسان بلاس اليوم...
كان "بيانو" بين الناجين وقد وجد نفسه محاطاً بنحو 500 من الناجين الآخرين، في ذلك الوقت لم يكن هناك سوى الأحراش، ولم يكن أمام تلك الثلة الناجية إلا المقاومة للعودة إلى الوطن أو بناء حياة جديدة حرة، واستطاع بيانو بحكمته وقوة شخصيته أن يصبح قائدهم واتخذ من ذلك المكان في بنما بعيداً عن عيون المحتل الإسباني وتجار الرقيق قاعدة ومنطلقاً لأول مجتمع إسلامي متماسك سيتكوّن هناك.
كانت هناك حياة جديدة تتشكل وسط الأحراش، بيوت صغيرة تشبه تلك الموجودة في الوطن، وأماكن للتعليم فأفراد شعب الماندينكا معروفون بالذكاء وحب العلم والحرص على تعلم القراءة والكتابة.
بالطبع لم ينسوا بناء المساجد إذ لم يكن هناك بد منها لتكون منارات تضيء طريقهم نحو إمارتهم الوليدة، وليُذكر فيها اسم الله ويصدح من جنباتها الأذان كل يوم خمس مرات...
ومع مرور الأيام أصبح المكان ملجأ لكل العبيد الهاربين من مناجم الذهب وغيرها وملاذاً لكل تواق إلى الحرية، وأخذ العدد بالتزايد وتوسع المجتمع الذي أنشأه بيانو ورفاقه أكثر فأكثر.
هل استمرت الإمارة طويلاً؟
كانت الإمارة الإسلامية التي أدارها بيانو بتنظيم شديد تكتسي حلتها البهية، وكان أفرادها شديدي الالتزام بدينهم، لقد أصبح المكان شبيهاً -نسبياً- بالإمارات الإسلامية التي قامت هناك على الطرف الآخر من العالم.
لم يكن من الممكن أن تبقى الإمارة خفية على الإسبان، فحاولوا منذ أن اكتشفوها القضاء عليها وإخضاعها، لكن بيانو قاد حرب عصابات واسعة ضد الإسبان وقاوم ورفاقه جحافلهم المدججة واستطاع الصمود على مدى سنوات خمس..
كان بيانو ورفاقه أشداء، يمتلئون بالعزيمة والبأس، متسلحين بإيمان قوي يغمر قلوبهم فيعطيها ثباتاً منقطع النظير جعل لهم كعباً أعلى على أعدائهم، وهكذا لجأ الإسبان إلى التفاوض والخديعة، فعقد بيانو عدداً من المفاوضات ووقع عدداً من المعاهدات مع القائد الإسباني بيدرو أورثوا الذي عقد معه صداقة مزيفة، ودعاه إلى مأدبة عشاء مع أربعين رجلاً من رجاله، ودس لهم السم في الطعام فماتوا جميعاً إلا بيانو وسبعة من رفاقه...
السطر الأخير...
لم يمت بيانو بالسم ولكن تلك الحادثة كانت بمثابة السطر الأخير في قصة رجل أسهم في وصول الإسلام إلى بنما، فقد قبض القائد الغادر على بيانو وأرسله إلى البيرو ومنها إلى إسبانيا حيث قضى نحبه هناك صابراً محتسباً... ثم التفت بيدرو إلى تصفية كل المسلمين في الإمارة الفتية التي وئدت وهي ما تزال في مهدها.
مات بيانو ولكنه بقي حاضراً في بنما، وتخلد اسمه في تاريخها، في النهر الذي ما يزال يحمل اسمه حتى اليوم...