لماذا يحب الأندونيسيون ترونو
أن تكون فقيهاً شافعياً، وأن تكون مقاوماً، وأن توحّد بين أكثر من 18 ألف جزيرة، وتملك قلوب سكانها، وأن تمهّد لاستقلال أكبر أمة مسلمة، هذه هي قصة ( ترونو جويو) الفقيه الشافعي الذي وحّد النضال الإندونيسي لمواجهة الاستعمار الهولندي..
إن كنت أحد الناجين من الأزمات العصيبة فلعلك تدرك هذه الحقيقة جيداً، هنالك شروط للنصر، وتدرك أن المعونة الإلهية قادمة لا محالة ما دمت مخلصاً لله في محنتك، ولعلنا هنا نتساءل، كم طال أمد أشدّ الأزمات التي مرت بك؟ بضعة أشهر أو عدة سنوات؟ إليك قصة أمة استمر نضالها أكثر من ثلاثة قرون! دون كلل أو ملل.
نحن الآن في إندونيسيا عام ١٦٠٢م حين كان جسم خبيث يزرع بالمنطقة أطلق عليه اسم شركة الهند الهولندية، شركة ظاهرها التجارة والربح، وباطنها مخططات الإنقسام و طموحات الإستعمار الهولندي.
شيئاً فشيئاً بدأت مخططات الاستعمار تتمادى مثل ورم خبيث، بدأت بزرع بذور الانقسام بين مسلمي إندونيسيا الذين لم يكونوا في أتم الوفاق فيما بينهم آن ذاك، جعلت شركة الهند الهولندية تحابي حكام وأمراء المناطق حتى اشترت بعضهم، وأشعلت العداوة في قلوب الآخرين، حتى امتلكت جزءاً كبيراً من أراضي اندونيسيا وبدأت في نهب ثرواتها.
كان هذا الفلاح البسيط العامل بأرضه في حقول الأرز يضطر لدفع ضرائب باهظة إلى الحكومة الهولندية بعد أن نزع الإحتلال ثياب الخراف فبرزت أنياب الذئب وأصبح احتلاله للأرض علناً تحرسه القوات المدججة بالسلاح، ومن هنا انطلقت المقاومة!
هنا من هذا المحراب عام ١٦٧٥م يتصدر هذا العالم الفقيه المشهد وقد التفت حوله أيادي الأندونيسيين التواقة للمقاومة بعد ما شهدوه من ذل تحت بطش الإحتلال، كان هذا هو الزعيم (ترونو جويو) الفقيه الشافعي المذهب من جاوة، علَّمه تفقّهه في الدين أنه لا فائدة من المنابر والمواعظ إن لم تردع أيدي المسلمين كل ظلم وبطش يحل بهم.
قاد الزعيم (ترونو) أحد أشهر حركات المقاومة حتى التفت حوله جميع جزر أَندونيسيا شرقها وغربها، ومنهم فرسان ومُقاتلو (ماكاسار) المشْهورون بقوتهم، تكبّد الاحتلال الهولندي خسائر فادحة لم يكن يتوقعها، وشهد مقاومة ضارية لم تكن في الحسبان، كانت ذروتها حين منع الزعيم مزارعي الأرز والبهار من حصد مزروعاتهم لصالح هولندا، الأمر الذي جعل الأخيرة تحشد قواتها عام ١٦٧٦م وتتكبد أول خسارة فادحة لها ضد المسلمين.
هكذا صار ( ترونو جويو) أول زعيم مقاومة تتوحد تحته كل جزر أندونيسيا وحكامها، لقد أصبح القائد الأعظم لهم، ما أثار حفيظة الخونة مثل (منكورات) سلطان ( ماتارام) الذي لم تمنعه خسارته للمعركة برفقة حلفائه الهولنديين من أن يمكر بالمسلمين مكر الخاسر الذي يود جرّ الجميع معه إلى الجحيم.
هو ما يشبّه اليوم بسياسة الأرض المحروقة، عندما يهزم طرف فيشتعل حقداً ويتلف كل ما هو أمامه ليكبّد الطرف المنتصر خسائر أكبر، قرر الخائن بذل كل ما يملك من أموال للمحتل الهولندي! نعم قرر أن يفني كل ثرواته في معاهدة وقعها تنص شروطها أن يقوم الهولنديون باعتقال الزعيم (ترنو جويو) حياً مقابل أن يدفع هو بنفسه تسليح الجنود الهولنديين حتى يستمروا بالحرب! فأي عمالة هي هذه التي شهدتها أندونيسيا وأي خيانة أكبر من ذلك.
وبالفعل بعد معارك ضارية يقع الزعيم (ترونو) في الأسر، ويشفي (منكورات) غليله فيقوم بقتل المجاهد العظيم، وتبدأ حقبة جديدة من سيطرة المستعمر الهولندي على أرض المسلمين في أندونيسيا، لم تخلُ من كفاح الأندونيسيين أيضا شعباً وحكّاماً وولاة وفقهاء وعلماء، في قصة نضال استمرت لأكثر من ثلاثة قرون.
كان مكر الله بالخائن (منكورات) أشد وأعظم، إذ ابتلاه بمرض عضال في عقله، وأصابه الصرع والجنون حتى وفاته.
تعاقبت على أندونيسيا العديد من حركات المقاومة الإسلامية، مثل حركة الأمير (ديبو نيجورو) وحركة (البدريين) وحروب مملكة آتشيه، خلالها استعمل الإستعمار شتى أنواع المكر والخبث ودرجات العمالة، استطاعت أندونيسيا طوال كل هذه السنوات توحيد صفوفها والإبداع في المقاومة، فقاومت الفكر الغربي بالمراكز الاسلامية، وقاومت الحركات السياسية العلمانية بحركات إسلامية مضادة، وقاومت كل الأفكار الخبيثة بتعليم إسلامي قوي للأطفال الأندونيسيين، بل حتى إنهم قاوموا حركات التنصير الشرسة التي جاءت فيما بعد، ولقد استحقوا بكل تلك المقاومة بأن تصبح اندونيسيا أكبر بلد مسلم اليوم!
فلعلنا نتأمل و نسأل سؤالاً أخيراً، في أي مرحلة من نضال أندونيسيا نحن اليوم؟ هل ما زلنا نقاوم العملاء أم إننا في مرحلة المقاومة المسلحة أم لا زلنا نستبْصر معالم الطريق، ولنا في الآخرين عظات إذ لابد للنصر أن يكون حليف الحق مهما طال الزمن.