مدينة صاحب الجامع
فتحها سعيد بن عثمان بن عفان ، وقتيبة الباهلي .. ما الذي تعرفه عن (ترمذ) مدينة صاحب الجامع الصحيح الترمذي .
ثمة ما يبهجك في "ترمذ" هذه المدينة الهاجعة على كتف نهر جيحون هناك في أقصى الجنوب الغربي لبلاد سماها العرب فيما مضى بلاد "ما وراء النهر" ويعرفها العالم اليوم باسم أوزبكستان...
ثمة ذاكرة في ترابها تكاد لا تخطئها على الإطلاق وتفاصيل كثيرة تنبئك بأن التاريخ ضرب مع هذا المكان مواعيد كثيرة وبأنه يعود إلى زمن بعيد يمتد إلى نحو ألفين وخمسمائة عام، وأن العرب والمسلمين كان لهم نصيب طيب من ذلك التاريخ المهيب.
تلفحك شمس الظهيرة اللاهبة ويعيد إليك منظر السراب المتشكل أمامك قصة الجنود الإغريق الذين قدموا إلى هنا مع جيش الإسكندر الأكبر فاستعروا بلهيبها وسموها على إثر ذلك thermos أي المكان الحار ومنها أخذت اسمها ترمذ.
تترك المدينة الحديثة خلف ظهرك فتقطع الحقول والبساتين المحيطة بها والمفروشة بأنواع شتى من المزروعات لاسيما حقول القطن وأشجار التفاح والسفرجل، تمضي وكأنك تسافر عبر الزمن ويتراءى لك غير بعيد سور المدينة القديمة وبوابتُها الشاهقة... ما تزال أحجارها -رغم كهولتها- تشد أزر بعضها البعض لتظهر بتلك الصلابة الآسرة للنظر...
تقودك خطاك على الدرجات الحجرية المؤدية إلى قمة السور فتتبدَّى لك أطلال المدينة القديمة كحسناء استطاعت أن تحافظ على جمالها على مر الدهور والعصور رغم كل ما حل بها، ويبدو لك المكان كصالة عرض كبيرة تظهر على جدرانها ظلال لخيول علا صهيلها وجنود مروا من هذا المكان فأصمّ صليل سيوفهم الآذان وجاسوا خلال الديار وأفسدوا كل ما فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وأحرقوا أركانها حتى غدت أثراً بعد عين، تلك كانت جيوش المغول عام 617 ه يوم دمروا المدينة وكان ذلك آخر عهد بالمدينة القديمة، فعلى بعد ميلين اثنين بعيداً عن النهر الذي كان مشيمة ترمذ وحبلها السري وُلدت المدينة الجديدة وهناك تألقت مرة أخرى...
تعود بالزمن مرة أخرى فيظهر على جدار آخر ظلال لطلاب علم يتوافدون من كل حدب وصوب إلى حاضرة بلاد ما وراء النهر، وينتشر في الأجواء عبق طيب ويظهر ظل لرجل يتأبط مصنفات وكتباً وقراطيس ويمشي مهيباً وهو يقطع البوابة ليلج إلى المدينة، كان قد ولد فيها ودرجت بين أحيائها وقراها طفولته وعندما اشتد عوده قرر أن يقطع الفيفافي والأمصار طلباً للعلم ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ورحل إلى بخارى والعراق وأرض الحجاز درس على يد كبار العلماء في تلك الفترة وعبَّ من علمهم ما استطاع ثم عاد من رحلته ليؤلف كتاباً ما يزال مرجعاً للمسلمين في أحاديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، هذا الرجل هو محمد بن عيسى بن سورة الترمذي صاحب سنن الترمذي رحمه الله...
خارج مدينة ترمذ وتحديداً في قرية بوغ حيث ولد الإمام ستجد قبراً مشيداً مرصوفة جدرانه وقبابه بالحجارة يرقد فيه محمد بن عيسى الترمذي بعدما خلد اسمه بحفظه لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتواصل العرض فتظهر على جدران السور ظلال لحرفيين وتجار وأمراء وعسس وأسواق تضج بالحياة والحركة ونساء محتشمات يطفن بجلابيبهن وصوت أذان يصدح من أعلى مئذنة قليلة الارتفاع، في زمن كان الإسلام قد انتشر فيها منذ أن فتحها المسلمون على يد سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما عام 56هـ وأعاد موسى بن عبد الله بن خازم فتحها عام 69 ه ثم فتحها قتيبة بن مسلم الباهلي عام 93 ه وحكمها المسلمون من العرب والمغول والسلاجقة والأوزبك على مدى قرون.
تعود أدراجك إلى المدينة الحديثة وكأنما عدت في الزمن أيضاً، ويدهشك التحول الذي طرأ على المدينة ولكن ثمة ما يبهجك فيها، ثمة ما يثلج صدرك وأنت ترى المساجد وآثار المدارس والمعالم الإسلامية والمساجد فيها، ثمة عبق يستحث الذاكرة وللأنف ذاكرة قلما تخطئ، إنها ترمذ مدينة نعرفها وتعرفنا واسألوا الترمذي إن شئتم.