مخطوطات عائلة كاتي
يرحل من طليطلة إلى تمبكتو، عبر مضيق جبل طارق، متأبطاً أثمن الأوراق وأقربها إلى نفسه . تلفحه رمال المدينة التي ذاع صيتها بين أهل العلم، فيطمئن على اختياره ، وما كان يحمله، بدليل أنها مازالت موجودة إلى اليوم منذ ذاك الرحيل الحزين في عام 478 هـ . هذه هي قصة على بن زياد، ورحلة مخطوطاتِهِ ..
كلما أشرقت الشمس، كانت طليطلة تضيق على سكانها الذين أحبُّوها، خلت الطرق المرصوفة من ضجيج الحياة التي تفتحت منذ أن سحق طارق بن زياد جيشها القوطي فى نهار رمضان من العام 92هـ، فخلت معظم البيوت وبدت خراباً.
أربعة أحصنة متخمة بالحقائب، تستعد للرحيل، وسط أجواء شهر مايو الدافئة، فما عاد المكان مناسباً للمسلمين بعد أن سقطت المدينة فى يد (ألفونس السادس)، لقد مرت 4 قرون منذ أن ذهب الحكم القوطي، ولكن ها هو يعود اليوم، ومن سخرية القدر أن رجلاً من سلالتهم يستعد لـ(لفرار)، كانت تلك القرون كافية لتغيير نظرة بعض القوط إلى الحياة، فقد أسلم الكثير من منهم وأصبح انتماؤُهم للإسلام أهمَّ من انتمائهم الإثني.
صرير الباب وهو يُغلق لآخر مرة، يعصر قلب (علي بن زياد)، ربما كان يعلم أنه لن يعود إلى بيته هذا بعد ذلك، صهلت الخيولُ وهي تتلقى أولى الإشارات للانطلاق، ينظر بن زياد خلفه، ليرى سراب أيامه التي عاشها في طليطلة، حيث ولد وتعلم وعمل، لم يكن بأي حال من الأحوال شخصاً عادياً، فبالإضافة إلى جذوره القوطية، كان الرجل أحد قضاة طليطلة المشهورين.
عبثاً يحاول ألّا ينام، أمواج البحر الهادئة، وظلمة الليل، يغريانهِ ليفعل، لكنه كان يخاف على كنوزه التي يحملها بعناية، في الواقع لم يكن وحده فى هذه الرحلة، كان ضمن عشرات العائلات الأندلسية الهاربة من جحيم النصارى، وكان (بن زياد) حريصاً على العبور بمخطوطته القيّمة بسلام.
بدَا ممر جبل طارق طويلاً على غير العادة، فعبرْه سيصل إلى مكان مختلف، ليس الآن على الأقل، لأن (بن زياد) سيُمضى وقتاً لا بأس به متجولاً بين المغرب والجزائر والقاهرة، وصقلية وحتى دمشق، كان ما يزال يبحث عن مكان يملأ شغفه بالعلم، مكان يحتوى مخطوطاته التي طالما حرص عليها طوال رحلة الهروب تلك.
كانت الأمسيات التي يقضيها تحت ظلال نخيل جنوب المغرب حيث استقر أخيراً ، تمده بالكثير، قوافل الإبل القادمة من خلف الرمال، تزيده شغفاً للترحال، كانت تمبكتو قد صارت لؤلوة العالم، ومهد العلوم، تطمئنه علاقته الطيبة مع إمبراطورية السنغاي بالسودان الجنوبي فيستقر به الترحال في العاصمة القديمة لمملكة "غانا" أي "كومبو"، لم تكُن رحلة فردية للقاضي فقد آنسته في لياليه وترحاله مخطوطات عائلة القوطي الأندلسية مخاطراً بنفسه منقذاً إياها من محاكم مدينة طليطلة، تفادى لأجلها التفتيش الإسباني، الذي كان بشكل أو بآخر يسعى لأخذها،
فتبدأ حياته هنا برفقة خزانة مخطوطاته النفيسة، ومقتنياته العتيقة لعدة نسخ لنصوص دينية تخص القرآن العظيم وحياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، تاركاً في الهوامش تعليقاته على ما قرأه ومعلومات عن تلك الفترة ومعايشته للأندلسيين العلوج، فتحتضنه "تمبكتو" مدينة الرمال الذهبية والحقول الخضراء المورقة، تحكي قصة بريق وعزِّ العلم والثقافة، يتفحص (بن زياد) معابدها الرائعة ترتفع في السماء كمعبد للمعرفة، وأسوارها القديمة تروي حكايات عن صلابة شعبها فشعر لوهلة وكأنه قد كان هنا من قبل، فيكاد يسمع أصوات ماضيها، في شوارعها الضيقة والمتعرجة، يتجول العلماء والتجار والشُّعراء من بلاد مختلفة، يتبادلون الأفكار والإلهام، وقِصصُ الحضارة الزاهية تتناثر في كل ركن، وراء عتبات الزّمن، ليخفض ناظريه قليلاً وتراوده ذكرى عن الوطن، واضعاً يديه على قلبه بابتسامة حزينة، فقد تذكر "طليطلة"، كانت ذكراها كفيلة بنشر الدفء في قلبه، ليكمل بناظريه تجوله واستمتاعه باستكشاف "تمبكتو" المدهشة.
ما إنِ أستقر "بن زياد القوطي" حتى تزوج الأميرة "خديجة سيال" شقيقة أسيكا محمد سيلا والذي أصبح إمبراطوراً على المملكة لاحقاً.
تنطلق صرخة طفل، حياة أخرى وريث آخر من عائلة القوطي، والذي أطلق عليه زياد إسم "محمود" لم يخبو نجم عائلة القوطي بل اشتد ضوؤه، ليكبر "محمود كعت"حاملاً في جعبته العديد من الإنجازات فقد كبر نابغاً وسط العلماء، ويسير على درب أبيه قاضياً، ويغدو هذا القاضي مؤلفاً لكتاب "تاريخ الفتاش" والذي كتبه عام 1519م، في قمة إزدهار دولة السّنغي سياسياً وإقتصادياً وحضارياً، بفضل سلطانها الحاج "محمد بن أبي بكر" والذي يعد من أعزّ أصدقائه، فتزوج محمود بـ"عائشة بنت السلطان داؤد" 1548 وهاجرا معاً من مدينة"كاغ" عاصمة سنغي إلى مدينة " تيندرما " إبان الغزو المغربي لدولة سنغي عام 1591م، حتى يشاء الله أن يتوفاه عام 1593م، فتندثر لبرهة آثار هذه العائلة والمخطوطات، هذا ما يعتقده الليل أنه لا صباح، لكن الشّمس تأتي على عجل كل يوم لتخبرهُ أنه لن يطول هكذا بدا أحفاده كشمس إشتد شعاعها في منتصف غيمٍ داكنٍ كاد أن يمطر، ليتسلل شعاع الأمل حاملاً كل الإرثِ السّابق في خيوطه متسللاً عبر التاريخ فإصرار ومثابرة إثنين من أحفادِ علي بن زياد "ديادي حيدرة، وأبنه إسماعيل كاتي" أنقذاه من غياهب النسيان والاندثار، مُسلّحين بصبر عجيب ودقة عالية جالاَ كلّ أراضِي مالي، بحثا في الذاكرة وفي الأماكن المهملة، لدى الأقارب والأصدقاء،
حتى استرجعا آلاف الوثائق والمخطوطات وأعادوها مرّة أخرى إلى تمبكتو، لكنّ سوء التخزين كاد يودي بهذا الإرثّ العظيم، فيبذل "إسماعيل" كل جهده للحفاظ عليه، مقرراً طلب المساعدة من أرض أجداده لكي لا تندثر هذه المكتبة.
في سبتمبر عام 2003، أُفتتحت المكتبة الأندلسية "بتمبكتو" بعد عام من الأشغال، وهي عبارة عن مبنى مساحته 800 متر مربع يحوي 3000 كتاب، وقد تكفّلت وزارة الثقافة الإسبانية بتهيئتها، تضم هذه المكتبة أهم إرث ثقافي يهتم بالقرنين 15 و 16 و تنطوي على معلومات ثمينة حول أنماط عيش الأندلسيين بأفريقيا جنوب الصحراء.
ليصبح "إسماعيل" آخر أحفاد وورثة الطُليطلي"علي بن زياد القوطي" رئيساً لمؤسسة خزانة القوطي، جاعلاً من "تبمكتو" مزاراً عالمياً حاملاً على عاتقه الحفاظ على هذا الإرث حيّا، يجوب الأفق.