من جاوة إلى الحرم
أخيراً تلوْح جدة، ثم مكة، ثم الحرم، إنها الرحلة التي من أجلها خاضوا الصعاب، فأصبحوا من نسيج المجتمع الغربي فى المملكة العربية السعودية، ما الذي نعرفه عن الجاويين؟
تطلق السفينة عويلاً متقطعاً مؤذنة بالوصول... يتنفسون الصعداء بينما ترسو الدواسر بهم في ميناء جدة...
أخيراً، إنها أرض الحجاز... الأرض التي تهفو إليها أرواح المسلمين في كل مكان، الأرض التي طالما تمنوا أن يطؤوها وقطعوا من أجلها كل تلك المسافة من جنوب شرق آسيا حيث تايلاند وماليزيا والجزر الإندونيسية...
يطلقون عليهم هنا الجاوة نسبة إلى جزيرة جاوة الإندونيسية أكثر مناطق إندونيسيا اكتظاظاً بالسكان، وكانوا قد اعتنقوا الإسلام في وقت مبكر مع وصول التجار الحضارم المسلمين إلى الجزر الإندونيسية.
لقد باتوا على بعد بضع عشرات من الكيلومترات عن أرض الحرم الشريف، ها هو الحلم يتحقق!!...
رحلتهم هذه المرة لم تكن بغرض الحج، وهم الذين اعتادوا دائماً الوصول إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ابتداء من غرة شهر رمضان، يصومون ويقومون ويمكثون هناك حتى يحين موعد الحج يؤدون الفريضة ثم يعودون إلى بلادهم في شهر محرم.
يتركون الفُلك العائم المشحون بالمئات وينعمون للمرة الأولى منذ أشهر بالدوس على الأرض اليابسة حيث لا ترنح ولا اهتزاز، تميزهم فوط "السمرندا" التي تشبه الحرير وتلفت أناقتهم ونظافتهم الأنظار إليهم، أناقة يردها البعض إلى تأثير الاستعمار الهولندي لبلادهم، ويردها البعض الآخر إلى تنوعهم العرقي الكبير، ينشرون ابتساماتهم ويبدون لُطفهم وكرمهم لكل من يقابلونه.
لكن هذه المرة لن تكون هناك عودة... فهم لم يأتوا لأداء فريضة الحج، بل إن ما يحدث في بلادهم يجبرهم على الهجرة فراراً بدينهم وأنفسهم وأموالهم...
إنه النصف الثاني من القرن التاسع عشر... الحكومة الاستعمارية البرتغالية تزيد الضغط على السكان المحليين بعد سقوط العديد من الممالك التي كانت قائمة، بعض الحكام يُنفون إلى بلاد أخرى، والبعض الآخر يهرب فاراً بدينه بعد مقاومتهم لهم، أما الأغنياء من تلك المناطق فخرجوا بأموالهم وأبنائهم هرباً من سطو جيوش القوى الاستعمارية عليهم، وقد اختار أغلب المهاجرين من المسلمين الحجاز وبصفة خاصة مكة المكرمة وجهة للهجرة والاستقرار رغبة في مجاورة بيت الله الحرام.
سيعيشون على أرض الحجاز وفي مدن غرب المملكة العربية السعودية لا سيما في مكة المكرمة، سيستقرون فيها وينصهرون في المجتمع ويكونون أحد مكوناته، وحتى يومنا هذا سيظهر كثير من الأطباء والمدراء والقادة السعوديين من أصول جاوية، وسيُذكرون دائماً بأنهم الجاوة الذين جاؤوا إلى مكة رغبة في مجاورة بيت الله الحرام ومدينة سول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.