شارك هذا المقال :


من ترمذ إلى بلدان الدنيا

الدولة: أوزبكستان

يخرج ذات صيف من المدينة التي أخذ منها لقبه، متنقلاً بين بلدان الدنيا، وباحثاً عن شيء واحد فقط، ولكن ما أجمله من بحث.. ترى كيف كانت رحلة الترمذي وهو يبحث عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  هنا وهناك..

على كتفه الغض يحمل خُرْجه المحمّل بقليل من المتاع والقراطيس وينطلق مع ساعات الصباح الأولى مستفيداً من نسمات الصباح الرطبة قبل أن تشتد أشعة شمس النهار، يحثُّ الخطى قاطعاً الأزقة الترابية لقرية "بوغ" إحدى قرى مدينة ترمذ حاضرة البلاد حينها، والتي قدم إليها أسلافه العرب من قبيلة (سُليم) واستقروا فيها، وقد بدأ توافدهم إليها منذ أن فتحها سعيد بن عثمان بن عفان عام 56ه، وتوالت بعدها  الفتوحات الإسلامية عليها وحَكمها المسلمون قروناً من الزمن.

ينتصف النهار فتلفحه شمس مدينة ترمذ اللاهبة ويجد "محمد بن عيسى بن سورة الترمذي" نفسه وحيداً في طريق سفره إذ قلّما يخرج ساكنو تلك المدينة في ساعات الهاجرة بسبب الحرارة المرتفعة. 

فترمذ تلك المدينة الهاجعة على كتف نهر جيحون هناك في أقصى الجنوب الغربي لبلاد سماها العرب في زمنه بلاد "ما وراء النهر" ويعرفها العالم اليوم باسم أوزبكستان والتي ينسب إليها الإمام، معروفة بحرارتها المرتفعة، ويقال: إنّ ذات تلك الشمس لفحت ذات صيف سحيق وجوه أفراد الجيش الإغريقي الذي جاء مع الإسكندر الأكبر، وعندها أطلقوا عليها اسم thermos أي "المكان الحار" ومنها أخذت هذا الاسم "ترمذ".

يولي محمد بن عيسى وجهه شطر الحقول والبساتين المحيطة بالمدينة ليستظلّ بأشجارها الكثيفة ويتمتع بأنسامها العليلة ويرتاح قليلاً قبل أن يلقي النظرة الأخيرة على مدينته التي بدت له في تلك اللحظة وكأنها تودعه بصورة بديعة شكلتها نتف الماء اللامعة على سطح نهر جيحون الذي يفصل بلاد ما وراء النهر عن مقصده هناك في كل من بخارى وخراسان والعراق وجزيرة العرب، بدت وكأنها تقول له: "اذهب وها أنذي أنتظرك وأنتظر ما سترجع به إلي".

 

 

لم تكن تلك الرحلة التي قادته إليها قدماه بغرض التجارة أو ليصيب شيئاً من هذه الدنيا، فالأمر الذي كان يسكن عقل محمد بن عيسى الترمذي في ذلك الصيف من بدايات القرن الثالث الهجري هو العلم ولا شيء غيره، وفي سبيله قرر أن يقطع الأمصار بحثاً عن مناهل العلم ورجالاته، وقد كانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الميدان الذي احتل شغفه رحمه الله، 

لم يكن الترمذي، رحمه الله، يعرف حينها متى سيعود من رحلته ولا إلى ماذا ستفضي وما سيكون لها من نتائج ولكن المعروف لنا اليوم أنه أصبح فيما بعد أحد أئمة الحديث الأعلام وصاحب كتاب (سنن الترمذي) أحد مراجع كتب الحديث النبوي حتى يومنا هذا، كانت رحلة إلى صحائف التاريخ والخلود في ذاكرة المسلمين بما ستنتهي إليه هذه الرحلة من الخير والفضل العظيم.

 

 

سيقضي الإمام محمد بن عيسى الترمذي ردحاً من عمره وهو يتنقل مرتحلاً باحثاً عن المعرفة وستعرفه حلقات العلم في خراسان وبغداد وأرض الحرمين وينهل كثيراً من العلم على يد عدد من شيوخه الذين كان منهم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى صاحب الجامع الصحيح الشهير المعروف بصحيح البخاري، وقتيبة بن سعيد، وإسحاق بن راهويه، و محمد بن عمرو السواق البلخي، ومحمود بن غيلان، وإسماعيل بن موسى الفزاري وغيرهم، قبل أن يعود إلى ترمذ ويؤلف عدداً من المصنفات والمؤلفات عظيمة النفع، وسيبقى رحمه الله عاكفاً على العلم حتى يفقد بصره في أواخر حياته ويُتوفى عام 69هـ .



شارك هذا المقال :
الدولة: أوزبكستان


بحث