رحلة الحاجِّ الوحيد
رحلة الحاجِّ الوحيد، وسرُّ أول بداية للإسلام في تونغا
هذه الشوارع بدت خليطاً من مظاهر التمدُّن و الريف معاً، سر وأنت تنظر إلى الأعلى، إلى هذا النخيل الإستوائي، حرارة الشمس ورطوبة الجزيرة الإستوائية تزيد من ظمئك، لكن ظمأً آخر كان يشتد عليه، إنّه ظمأ الرُّوح التي تودُّ أن تنهل من النور.
هكذا سار قاصداً وجهة لم يكن يعلمها، ساقته أقدامه إلى حيث أراد أن يضعه الله، ليجد نفسه أمام مسجد السيدة خديجة في عاصمة تونغا (نوكو الوفا)، لم يكن يعلم أنها كانت أول حضن دافئ هدّأ من روع نبي الأمّة صلوات الله وسلامه عليه، كانت الملاذ الآمن وهو يقول: "زملوني دثروني" ، شيء ما بعث بنسمات السيدة خديجة رضوان الله عليها في الأرجاء ليجد الرجل الخمسيني (أباكسي لانجي) نفسه داخل المسجد، لا يدري لماذا، لكنه يرتاح إلى هذه الصلاة، إلى تلاوة القرآن، يقبل على الإمام فيسأله، ما هذا الدِّين، حدِّثني مزيداً عنه، وتلك كانت بداية الإيمان..
"شعرت بشيء ما يجذبني لهذا المكان ودخلت فوجدت أناساً يؤدون الصلاة فاستغربت، شعرت براحة أكبر فتقدَّمت للإمام وطلبت منه التعرف على هذه العبادة".
أباكسي لانجي
لكنَّ القصة بدأت قبل ذلك بكثير، تلك اللحظة التي غيرت من حياة (لانجي) كانت امتداداً لأسباب كثيرة هيأها الله للمسلمين في بلاد تونغا الذين لاتكاد تزيد أعدادهم اليوم عن ٣٠٠ مسلم، كانت أولاها بإسلام (فياز مانوFayaz Manu) عام ١٩٨٣م متحولاً عن المسيحية، (مانو) وزوجته وأطفاله الستة استقرت قلوبهم على الإيمان بالله، ليبدأ ربُّ الأسرة مشوار الدعوة منفرداً، حاملاً على عاتقه أن يبني مجتمعاً إسلامياً في تونغا، ولم يتوقف حتى استطاع إنشاء الرابطة الإسلامية لتونغا، التي كانت نواة البداية لكلِّ الأنشطة الإسلاميّة في البلاد.
ولأن تونغا مملكة دستورية، يكفل دستورها حرية الأديان، خصّص الحاكم لهم غرفة خاصَة في قصره، فيها اجتمع المسلمون الأوائل لأداء صلاة الجماعة، فواز وأسرته وكلُّ من أسلم معهم من المعارف والجيران وغيرهم، تُرى كيف كانت تلك السجدة الأولى في أول صلاة جماعة للمسلمين، وهم يعلمون أنهم الوحيدون الذين يسجدون لله في هذه البلاد، ما حجم المسؤولية التي شعروا بها آنذاك، وكيف أثّر كلُّ ذلك على (إلياس مانو) ابنه الذي كان يبلغ من العمر ١٦ عاماً حين أعلن فواز إسلامه أول مرة.
تمر الأيام، تتكاتف جموع المسلمين حتى يتم بناء أول مسجد في تونغا، مسجد السيدة خديجة الذي صار لاحقاً منارة للإسلام يعلِّم الدِّين للصغار والكبار في بلد لم تكن تألف الإسلام بعد، لا عجب أن أسموه بهذا الإسم، إنه سحر السيرة النبوية، ودفء السيدة خديجة الذي يضيء كمصباح في عتمة الليل.
يكمل إلياس المشوار من بعد والده، يدرس الإسلام واللغة العربية، ويتخرج من فيجي بمنحة لطلاب العلم وفرتها دول إسلامية، يعود ليصير أحد أهم أئمة المسلمين في تونغا، يقيم الصلاة، ويسير على خطى والده في الدعوة…
هي جهود تثمر، وخطى حثيثة يباركها الله عز وجل، منذ ذلك الماضي حين أسلم (مانو) وحتى هذه اللحظة من عام ٢٠١٨م، حيث يقف فيها الحاج (لانجي) مُحرِماً في المشعر الحرام ، يروي قصته، منذ اعتناقه للإسلام حتى توفيق الله الذي ساقه ليحظى بشرف الحج، فيصير الحاج الوحيد من دولة تونغا ذلك العام، نعمة وهداية، سيظل (لانجي) حامداً وشاكراً المولى لها حتى الأزل .