سجل داشي
بعد شهور من الترحال، كانت رمال الصحراء قد أختفت خلفه، حيث انطلق، ذات صباح، وكان عالم جديد قد بدأ بالظهور أمامه، هكذا ببساطة وصل أول مسلم إلى الصين، كيف بدأت القصة؟
لا يمكنك أن تجزم حقاً، هل كان مغامراً واحداً أم إثنين، غير أن الدهشة كان العامل المشترك، فالسفر إلى المجهول يمنحنا مشاعر مندفعة، حب الإستكشاف،مع خوفٍ وعزيمة، فالطريق يقدِّر من يعبره بهمّة، ويمنحه ما يستحق أن يراه…
تلمع العيون، وتنشرح الصدور، فقد قاربنا على الوصول، نحن على مقربة من نهر اللؤلؤ ونهاية طريق الحرير.
…
أجسادٌ صغيرة، وعيون ضيقة، بشرة بيضاء، ولغة صعبة الفهم، هكذا كان شعور تجار العرب وهم يطؤون الأراضي الصينية لأول مرة؛بعد شهور من افترش الأرض، والتحافِ السماء، ها هم فى الصين أخيراً..
بدا كل شيء غريباً بالنسبة لهم، تماماً كما بدوا هم للسكان المحليين..
ربما سيسجل التاريخ أن هؤلاء العرب هم أول من بذر البذرة الأولى للإسلام هناك؟
كانت أولى وجهاتهم السوق، في قلب مدينة "كانتون"..
تبدو الأماكن مزدحمة بالبضائع، تتلقفكَ يميناً متاجرُ التُّحف وهي منقوشة بأجمل النقوش، وشمالاً متاجر الثياب والأقمشة بألوان جذابة، مقسّمة ومطويّة بعناية..
تلك محلات لبيع الحبوب والأرز، وتلك فقط للأطعمة والمأكولات، وفي آخر الشارع مطاعم وحانات، مدينة مكتظة بالبضائع أكثر من اكتظاظها بالناس، حتى أنك لتكاد تقسم أن هذا السوق لا يمكن، أن ينضب يوماً.
أما المرسى فهو عالم آخر، إّنه المكان المفضل للتجار العرب، فمنها يرسلون عجائب الصين وغرائبه إلى عالمهم فى الصحراء، وعن طريقها يضمّخون سوق (كانتون) بألوان البخور، وأنواعه، وبالكثير ممّا تجود به أرض العرب، عطور عربية، يرتعش لها أنفك قليلاً إنها رائحة التوابل، هيل، ووقرفة وأشياء أخرى.
لا يمكن للنظر أن يخطئ أيضاً ذاك السجاد فنقوشُه الفارسية واضحة للعيان.
ما هي إلا سنوات قليلة وأصبح لهؤلاء العرب شأن فى هذه البلاد.
عمّا قليل سيصبح لأصحاب هذه العمامات البيضاء، والشوارب الكبيرة، والعيون الواسعة، شأن كبير، وسيُطلق عليهم أهلُ الصين إسم "داشي" أي " التاجر" ، سنعرف عبر التاريخ أنهم كانوا أول الوجوه المسلمة التي رآها أهل الصين.
سنعرف من المؤرخين أن أسرة تانغ الملكية قد أعدّت لهم سجلاً أسموه "سجل داشي" يصف جغرافيّتهم ومنتجاتِهم القادمة من العالم العربي.
تمضى الأيام، وتزداد أعدادهم، نراهم وقد عمدوا إلى غرس ثقافاتهم وحضارتهم.
لم تسلم البيوت التي بنوها من الزخارف التي تحكى إرثهم فى ديارهم هناك فى الصحراء، وكذا مساجدهم، وهذا هو الأهم، فقد كبر مجتمع "التجار" ليصبح أمّة صغيرة من العرب المسلمين الذين حملوا دينهم إلى هذه الأصقاع.
وُصِفوا في تاريخ "كوانغ تانغ" وقيل عنهم "في عهد دولة تانغ (٦١٨هـ-٩٠٧م) " وفد على كانتون عدد كبير من الغرباء من مملكة أنام وكمبوديا وبلاد أخرى، وكان هؤلاء الغرباء يعبدون الله، وليس في معابدهم تمثال ولا صنم ولا صورة، لا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون الخمر ويعتبرون الذبائح التي لا يذبحونها بأيديهم طعاماً نجساً"، وبرغم اختلافهم أصبحوا نسيجاً من المجتمع الصيني، ما زالت عقيدتهم ثابتة، مؤثّرين بلا شكّ في الثقافة الصينية " .