صيلبيا المسلم وباسيل الجاميكي
ليست ألوان المباني وحدها ما يميز (كولون)، وإنما وجوه ساكنيها أيضاً، تلك التي تكوّنت من أفريقيا والهند والكاريبي، وغيرها، وهي التي ولدت أيضاً من إرث الذهب الذي كان يتدفق من كاليفورنيا، فنتج عنه هذا الخليط المسلم المتباين الألوان، وكان صليبيا وباسيل وغيرهم ممن يشكلون أمة الإسلام في بنما ..
وأنت تقف في مدينة نيويورك الأمريكية تطالع الوقت في ساعتك، هنالك شخص آخر في كولون إحدى مدن بنما الواقعة في أمريكا الوسطى يقف في مثل موقفك هذا ويطالع توقيته المحلي لتتشاركا نفس الساعة، ليس التوقيت فحسب، بل تجمعكما خيوط كثيرة، إذ تقعان مثلاً على نفس خط الطول رغم اختلاف المناخ وهذا يعلّل تطابق الوقت، وبين بلديكما تاريخ مشترك آخر، لعلك سمعت بعضه! "حُمّى ذهب كاليفورنيا" وتلك قصة أعجب من الخيال! يهمنا فيها أنها شكّلت بداية الهجرات الإسلامية الكثيفة نحو هذه البقعة من الأرض.
وأنت تنظر إلى ملامح أهلها تجد كثيراً ممن يعمرون مساجد الله من الأفارقة الذين استوطنوا هذه الديار، مجيئهم إليها في التاريخ لم يكن محض اختيار وإرادة، أغلبهم من تلك السلالة الأفريقية ذات الكفاءة الذين استقدمهم المستعمر كرقيق للعمل هنا في كولون، والذين كان لتفوقهم على المستعمر قصص وحَكايا أخرى تروى.
وعلى الجانب الآخر ترى ملامح آسيوية، هندوباكستانية، هؤلاء جاؤوا بمحض إرادتهم بعدما انتهت مهزلة حُمّى الذهب الذي ظهر في كاليفورنيا وتهافت عليه الجميع منذ بداية عام ١٨٤٩م إلى درجة إنشاء خط سكة حديد يبدأ من كولون إلى مدينة بنما وإلى كاليفورنيا، كانت هذه السكة الحديدية بمثابة معبر من شرق الولايات الأمريكية إلى غربها نحو الذهب، وكانت أيضاً هي البداية الفعلية لمدينة كولون.
انهار مشروع الذهب بعد سنوات قليلة، لكن كولون ظلت مدينةَ ملتقى نشطت فيها كل أنواع التجارة، اختلط فيها الناس من كل أنحاء العالم، ثم تقرّر حفر قناة بنما أخيراً التي تصل بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي، كان عليهم مرة أخرى استجلاب عمال أكفاء، وها هم المسلمون مجدداً يتوافدون، هذه المرة بشكل أكبر من ذي قبل.
لم يأت المسلمون لنيل الذهب، لم يطمعوا فيما لم تكسبه أيديهم، كان مسلكهم العمل والتجارة، افتُتحت القناة عام ١٩٠٤م ، ولعشر سنوات لاحقة ظل المسلمون يتوافدون إلى كولون، أثرهم باقٍ حتى اللحظة إذ تصاهروا مع السكان المحليين فدخل أكثرهم إلى الإسلام.
انظر إليهم جيداً، الملابس البيضاء التي تميزت بها جماعة الجاميكي "باسيل اوستكان" بعدما شيدوا أول مسجد في المنطقة، ليست هي الوحيدة التي تغيرت في ملامح كولون، بل حتى المباني والدور، هاهي العائلات تتجذر، وهاهو "صيلبيا" المسلم يترجم القرآن ويدعو الناس إلى الإسلام، وصرت ترى الآن سكانها الأصليين وقد أخذوا على عاتقهم هم الدعوة، وما أجمل ما يصدقه العمل.
محبة خالصة في قلوبهم لهذا الدين غيرت ملامح المكان إلى ما هو أجمل وأنقى من مجرد نقطة التقاء للعالم.
وأخيراً… تعال معي إلى حيث المثوى الأخير فى هذه الحياة، حيث يكرَّم موتى المسلمين، فكما غيَّر المسلمون هذه المدينة من مجرد محطة عبور وملتقى لكل ماهو مادي من بضائع ومحال وملابس وغيرها إلى شيء أكثر روحانية بالإسلام، حق لهم أن ينفردوا بهذه المقبرة الإسلامية التي اشتروها بجهودهم الخاصة عام ١٩٩١م في منطقة تسمى "Arrajain"، تبدو أموراً بسيطة، لكنها عظيمة في قلوبهم حق لهم أن يفخروا بها، فقف فيها وقفة معتبر واقرأ عليهم السلام في مرقدهم، فعلوا كل ما استطاعوا، فماذا نحن فاعلون؟