يبني تطوان حجراً حجراً ..
" وكان هذا القائد محارباً مقداماً حقّق أعمالاً بطولية خلال حروب غرناطة، فدعاه البرتغاليون (المنظري)، وكان معه دائماً 300 فارس من نخبة أهل غرناطة فجعل يجوب أنحاء البلاد بهذا الجيش ويأخذ العديد من المسيحيين ويحتفظ بهم كأسرى" ..
من هو هذا الأندلسي الذي أحيا تطوان؟
ملحمة تلو الأخرى، أصوات السيوف صارت مثل قرع الأجراس من شدتها، وفي كل يوم يسقط الشهداء، العدو يزحف نحو القائد الوحيد، يفنى حصن تلو الآخر، وتبقى قلعة (بينار) صامدة، ينظر إليها أهالي البلدة أعلى التلة نظرة الأمل الأخير، رغم أنهم جميعاً باتوا يدركون أن النهاية قد حانت.
كانت تلك أواخر أيام غرناطة الأندلسية، وهنٌ أصاب الحكام والرعية، لم ينجُ منه إلا المجاهدون، وكان الوقت قد مضى على إحياء ما ضاع منها، هو أمر أدركه (سيدي علي المنظري) المعروف (بالمنظري الأول) والذي ظلَّ يقاتل مراراً و تكراراً لأجل غرناطة وكلّ ما تمثله الأندلس، ولعلّ الجميع راهن عليه منتصراً في كل معركة وكأنّه وحدَه جيش لا يهزم، بينما أبصر هو حقيقة الوضع، مثل قطع الدومينو ستستمر الحصون بالسقوط، وسأبقى أنا هنا وحيداً أعلى أبراج القلعة، لقد أبصر نهاية قادمة لامحالة.
هل عليَّ أن أموت هنا حقاً؟ هل يستحقُّ رجالي هذه النهاية بعدما مزَّقتِ الصِّراعات الداخلية قصور الحكام فتكالب عليهم الصليبيون منتهزين فرصة لن تعوَّض؟ أم إنّه عليَّ التوجُّه إلى جبهة جديدة للمسلمين أستطيع الإنتصار فيها. أرضٌ دمّرتها الحروب، لكنّها لا تزال تحتاج إليَّ أكثرَ من هذه القلعة الغارقة.
كحمامة بيضاء فتح ( علي المُنظري) جناحيه للريح، ومعه خيرة رجاله الأشدّاء من ساحات المعارك، نحو البحر الأبيض المتوسط اتجهوا عابرين إلى حيث (تطوان) المغربية، قلوبهم معلّقة بقلعة بينار وبلدتها وبغرناطةَ التي اضطروا إلى تركها تماماً قبل سبع سنوات من سقوطها كما تنبَّأ، رحلوا يعتصرهم ألم الفراق ولكنهم كانوا عازمين على المضي قدماً إلى جبهة جديدة للمسلمين صارت خطّ الدِّفاع الأخير لهم بعد الأندلس، فتطوان لم تسلم من هجمات القراصنة والبرتغاليين الذين كانوا قد سيطروا على مدينة (سبتة)، حتى إنّها صارت خراباً لم يبقَ فيها شيءٌ إلا ونُهب.
لم يكن أهل تطوان يحلمون بخير من (علي المنظري) وجنوده ليقاتلوا معهم ضدّ هجمات البرتغاليين المستمرّة، وبحنكةٍ يفهم القائد الوضع تماماً "إن لم ننقذ تطوان، فلن يكون للمسلمين أثر في شمال أفريقيا بعد اليوم، ولعلّنا أيضاً نجعلها نقطة لنعاود منها الفتوحات، ولنستردَّ بها ما انفرط من عقد الأندلس!"
حجراً تلو الأخر، كانت أيادي المسلمين تبني حصناً جديداً في مواجهة الصّليبيين قبالةَ البحرِ الأبيض المتوسط عام ١٤٨٥م، لعلّهم كانوا يذرفون الدّموع بينما ترتفع أسوار حصون تطوان لتبدو شبيهة بالأندلس، كلُّ شيء هنا صار أندلسياً حقاً، الطرقات والمباني والحصون، عندما تنظر إلى هذه النقوش، وتلمس هذه الحجارة، إنّما تنظر إلى قلوب المحبّين الذين فارقوا غرناطة، وتلمس أثر هذه المحبَّة بيديك في جدرانها.
لم يكن هناك وقت للحُزن، بسرعة تصبح تطوان واحدة من أقوى الجبهات الإسلامية المدافعة في شمال أفريقيا، حوّل عليّ المُنظري هذه المدينة القاحلة إلى أندلس جديدة خاض فيها معارك لا تحصى، اليوم وأنت تسير فيها لا تنفك تسمع مديحاً عن القائد الأندلسي الذي قدم إليها فجعل منها منارة أخرى للإسلام، وعن كل الموريسكيين الذين فرّوا إلى تطوان بعدما سقطت مدن الأندلس واحدة تلو الأخرى، وبينما كان (المنظري) يغرس اسمه عميقاً في ذاكرة تطوان، ظلّ صدى هذا الاسم يتردّد في بلدة بينار الغرناطية حتى بعد سقوطها في يد الصليبيين، لا تزال بينار حتى اللحظة تحوي شارعاً مهمّاً باسمه (شارع القائد المنظري Calle Caid Al Mandari) لم يستطع الأسبان ولا البرتغاليون محو بطولاته من ذاكرة الطرقات ناهيك عن البشر، لا هنا في تطوان، ولا حتى في قلب محبوبته.. غرناطة.